الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              3174 [ ص: 302 ] باب القصاص من الجراح إلا أن يرضوا بالدية

                                                                                                                              وقال النووي : ( باب إثبات القصاص ، في الأسنان وما في معناها ) . وقال في المنتقى : ( باب القصاص في كسر السن ) .

                                                                                                                              (حديث الباب )

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 162 - 164 ج 11 المطبعة المصرية

                                                                                                                              عن أنس ؛ أن أخت الربيع "أم حارثة" جرحت إنسانا، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القصاص. القصاص" فقالت أم الربيع: يا رسول الله! أيقتص من فلانة؟ والله! لا يقتص منها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله! يا أم الربيع ! القصاص كتاب الله". قالت: لا. والله! لا يقتص منها أبدا.

                                                                                                                              قال: فما زالت حتى قبلوا الدية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره"
                                                                                                                              .]

                                                                                                                              [ ص: 303 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 303 ] (الشرح)

                                                                                                                              (عن أنس ) رضي الله عنه ، (أن أخت الربيع ) بفتح الراء (أم حارثة ، جرحت إنسانا ، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه ) وآله (وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه ) وآله (وسلم : " القصاص القصاص " ) هما منصوبان. أي : أدوا القصاص وسلموه ، إلى مستحقه. (فقالت أم الربيع ) بفتح الراء وكسر الباء وتخفيف الياء : (يا رسول الله ! أيقتص من فلانة ؟ والله لا يقتص منها. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " سبحان الله ! يا أم الربيع ! القصاص كتاب الله" ) أي : القصاص في " السن " موجب كتاب الله. وهو قوله تعالى : " والسن بالسن " .

                                                                                                                              وقيل : قوله تعالى : والجروح قصاص والأول هو الظاهر. والله أعلم.

                                                                                                                              (قالت : لا. والله ! لا يقتص منها أبدا ) .

                                                                                                                              ليس معناه : رد حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. بل المراد به : الرغبة إلى مستحق القصاص أن يعفو. وإلى النبي صلى الله عليه وآله [ ص: 304 ] وسلم في الشفاعة إليهم في العفو. وإنما حلفت ، ثقة بهم : أن لا يحنثوها أو ثقة بفضل الله ولطفه : أن لا يحنثها. بل يلهمهم العفو.

                                                                                                                              وقيل : إنه وقع ذلك منها ، قبل علمها بوجوب القصاص. وقيل غير ذلك.

                                                                                                                              وجميع ما قيل لا يخلو من بعد. ولكنه يقربه ما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم من الثناء عليها : بأنها ممن أبر الله قسمه. ولو كانت مريدة بيمينها رد ما حكم الله به : لكانت مستحقة لأوجع القول وأفظعه.

                                                                                                                              (قال : فما زالت حتى قبلوا الدية. فقال رسول الله صلى الله عليه ) وآله (وسلم : " إن من عباد الله ، من لو أقسم على الله لأبره " (أي : لا يحنثه لكرامته عليه.

                                                                                                                              قال النووي : هذه رواية مسلم. وخالفه البخاري في روايته فقال : (عن أنس بن مالك ، أن عمته " الربيع " كسرت ثنية جارية ، فطلبوا إليها العفو فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأبوا إلا القصاص. فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقصاص. فقال أنس بن النضر : يا رسول الله! أتكسر ثنية الربيع؟ والذي بعثك بالحق ! لا تكسر ثنيتها . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "كتاب الله القصاص " فرضي القوم فعفوا. فقال رسول الله صلى الله [ ص: 305 ] عليه وآله وسلم : " إن من عباد الله ، من لو أقسم على الله لأبره " ) . هذا لفظ رواية البخاري. فحصل الاختلاف في الروايتين من وجهين ؛ أحدهما : أن في رواية مسلم : أن الجارية أخت " الربيع ". وفي رواية البخاري : أنها " الربيع " بنفسها.

                                                                                                                              والثاني : أن في رواية مسلم : أن الحالف "لا تكسر ثنيتها ، هي أم الربيع. بالفتح. وفي رواية البخاري : أنه أنس بن النضر.

                                                                                                                              قال العلماء : المعروف في الروايات : رواية البخاري. وقد ذكرها من طرقه الصحيحة. كما ذكرنا عنه. وكذا رواه أصحاب كتب السنن.

                                                                                                                              قلت : إنهما قضيتان ؛ أما الربيع الجارحة في رواية البخاري ، وأخت الجارحة في رواية مسلم : فهي بضم الراء وفتح الباء وتشديد الياء. وأما أم الربيع الحالفة في رواية مسلم : فبفتح الراء وكسر الباء وتخفيف الياء.

                                                                                                                              قال : وفي هذا الحديث فوائد؛

                                                                                                                              منها : جواز الحلف فيما يظنه الإنسان.



                                                                                                                              ومنها : جواز الثناء على من لا يخاف الفتنة بذلك.

                                                                                                                              ومنها : استحباب العفو عن القصاص.

                                                                                                                              ومنها : استحباب الشفاعة في العفو.

                                                                                                                              [ ص: 306 ] ومنها : أن الخيرة في القصاص والدية ، إلى مستحقه. لا إلى المستحق عليه.

                                                                                                                              ومنها : إثبات القصاص بين الرجل والمرأة. وفيه ثلاثة مذاهب ؛

                                                                                                                              أحدها : مذهب عطاء ، والحسن : أنه لا قصاص بينهما في نفس ولا طرف. بل تتعين دية الجناية ، تعلقا بقوله تعالى : والأنثى بالأنثى .

                                                                                                                              الثاني : وهو مذهب جماهير العلماء ، من الصحابة والتابعين فمن بعدهم : ثبوت القصاص بينهما ، في النفس ، وفيما دونها ، مما يقبل القصاص. واحتجوا بقوله تعالى : النفس بالنفس إلى آخرها. وهذا ، وإن كان شرعة لمن قبلنا ، وفي الاحتجاج به خلاف مشهور للأصوليين ؛ فإنما الخلاف إذا لم يرد شرعنا بتقريره وموافقته. فإن ورد ، كان شرعة لنا بلا خلاف. وقد ورد شرعنا بتقريره ، في حديث أنس هذا. والله أعلم.

                                                                                                                              والثالث : هو مذهب أبي حنيفة ، وأصحابه : يجب القصاص بين الرجال والنساء في النفس. ولا يجب فيما دونها.

                                                                                                                              ومنها : وجوب القصاص في " السن " وهو مجمع عليه ، إذا أقلعها كلها. فإن كسر بعضها ، ففيه وفي كسر سائر العظام : خلاف مشهور للعلماء. والأكثرون : على أنه لا قصاص. والله أعلم. انتهى.

                                                                                                                              ( [ ص: 307 ] قلت : " الحديث " فيه دليل على وجوب القصاص في السن. وقد حكى صاحب البحر الإجماع على ذلك. وهو نص القرآن ، وظاهر الحديث وجوبه. ولو كان ذلك كسرا لا قلعا. ولكن بشرط أن يعرف مقدار المكسور ، ويمكن أخذ مثله من سن الكاسر. فيكون الاقتصاص : بأن تبرد سن الجاني إلى الحد الذاهب من سن المجني عليه. كما قال أحمد.

                                                                                                                              وقد حكي : الإجماع على أنه لا قصاص في العظم الذي يخاف منه الهلاك.

                                                                                                                              وحكي عن الليث ، والشافعي ، والحنفية : أنه لا قصاص في العظم ، الذي ليس بسن ، لأن المماثلة متعذرة ، لحيلولة اللحم والعصب والجلد. والله أعلم.




                                                                                                                              الخدمات العلمية