قلت: فهذا كله كلام
nindex.php?page=showalam&ids=14592الشهرستاني، وهو من أئمة المتأخرين من النظار، وأخبرهم بالمقالات، وقد صرح بأن معرفة الله ليست معدودة من النظريات التي يقام عليها البرهان، وأن الفطرة تشهد بضرورتها وبديهة فكرتها بالصانع الحكيم، إلى آخر ما ذكره وأن ما تنتهي إليه مقدمات الاستدلال بإمكان الممكنات أو حدوثها من القضايا الضرورية، دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية، من احتياج الإنسان في ذاته إلى مدبر.
وأما ما ذكره من أن إنكار الصانع ليس مقالة معروفة لصاحب مقالة. فإنه، وإن لم يكن مذهبا مشهورا، عليه أمة من
[ ص: 404 ] الأمم المعروفة، لكنه مما يعرض لكثير من الناس، ويقوله بعض الناس: إما ظاهرا دون الباطن - كحال
فرعون ونحوه - وإما باطنا وظاهرا، كما ذكر الله مناظرة
إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه للذي حاجه في ربه، ومحاجة
موسى [صلوات الله عليه وسلامه
لفرعون].
لكن هذا لا يمنع أن تكون المعرفة به مستقرة في الفطرة، ثابتة بالضرورة، فإن هذا نوع من السفسطة والسفسطة حال يعرف لكثير من الناس: إما عمدا، وإما خطأ. وكثير من الناس قد ينازع في كثير من القضايا البديهية، والمعارف الفطرية، في الحسيات والحسابيات، وكذلك في الإلهيات. ومن تأمل ما يحكيه الناس من المقالات عن الناس، في العلوم الطبيعية والحسابية، رأى عجائب وغرائب. وبنو آدم لا ينضبط ما يخطر لهم من الآراء والإرادات، فإنهم جنس عظيم التفاوت، ليس في المخلوقات أعظم تفاضلا منه، خيارهم خير المخلوقات عند طائفة، أو من خيرها عند طائفة، وشرهم شر المخلوقات، أو من شرها.
[ ص: 405 ]
قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=179ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون [سورة الأعراف: 179].
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=44أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا [سورة الفرقان: 44].
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=13ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال [سورة الرعد: 13].
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=34أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=35ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص [سورة الشورى: 34 ، 35].
ونظير هذا كثير. وكما تنازع النظار في المعرفة: هل تحصل ضرورة، أو نظرا، أو تحصل بهذا وهذا، على ثلاثة أقوال، فكذلك تنازعوا في
nindex.php?page=treesubj&link=28670_22311_22301مسألة وجوب النظر المفضي إلى معرفة الله تعالى على ثلاثة أقوال. فقالت طائفة من الناس: إنه يجب على كل أحد.
وقالت طائفة: لا يجب على أحد. وقال الجمهور: إنه يجب على بعض الناس دون بعض. فمن حصلت له المعرفة أو الإيمان عند من يقول: إنه يحصل بدون المعرفة بغير النظر لم يجب عليه، ومن لم تحصل له المعرفة ولا الإيمان إلا به وجب عليه.
[ ص: 406 ]
قُلْتُ: فَهَذَا كُلُّهُ كَلَامُ
nindex.php?page=showalam&ids=14592الشِّهْرِسْتَانِيِّ، وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ النُّظَّارِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِالْمَقَالَاتِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ لَيْسَتْ مَعْدُودَةً مِنَ النَّظَرِيَّاتِ الَّتِي يُقَامُ عَلَيْهَا الْبُرْهَانُ، وَأَنَّ الْفِطْرَةَ تَشْهَدُ بِضَرُورَتِهَا وَبَدِيهَةِ فِكْرَتِهَا بِالصَّانِعِ الْحَكِيمِ، إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ وَأَنَّ مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ مُقَدِّمَاتُ الِاسْتِدْلَالِ بِإِمْكَانِ الْمُمْكِنَاتِ أَوْ حُدُوثِهَا مِنَ الْقَضَايَا الضَّرُورِيَّةِ، دُونَ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْفِطْرَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ، مِنَ احْتِيَاجِ الْإِنْسَانِ فِي ذَاتِهِ إِلَى مُدَبِّرٍ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ إِنْكَارَ الصَّانِعِ لَيْسَ مَقَالَةً مَعْرُوفَةً لِصَاحِبِ مَقَالَةٍ. فَإِنَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْهَبًا مَشْهُورًا، عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ
[ ص: 404 ] الْأُمَمِ الْمَعْرُوفَةِ، لَكِنَّهُ مِمَّا يَعْرِضُ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَيَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ: إِمَّا ظَاهِرًا دُونَ الْبَاطِنِ - كَحَالِ
فِرْعَوْنَ وَنَحْوِهِ - وَإِمَّا بَاطِنًا وَظَاهِرًا، كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ مُنَاظَرَةَ
إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ لِلَّذِي حَاجَّهُ فِي رَبِّهِ، وَمُحَاجَّةُ
مُوسَى [صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ
لِفِرْعَوْنَ].
لَكِنْ هَذَا لَا يَمْنَعُ أَنَّ تَكُونَ الْمَعْرِفَةُ بِهِ مُسْتَقِرَّةً فِي الْفِطْرَةِ، ثَابِتَةً بِالضَّرُورَةِ، فَإِنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنَ السَّفْسَطَةِ وَالسَّفْسَطَةُ حَالٌ يُعْرَفُ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ: إِمَّا عَمْدًا، وَإِمَّا خَطَأً. وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ يُنَازِعُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْقَضَايَا الْبَدِيهِيَّةِ، وَالْمَعَارِفِ الْفِطْرِيَّةِ، فِي الْحِسِّيَّاتِ وَالْحِسَابِيَّاتِ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِلَهِيَّاتِ. وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا يَحْكِيهِ النَّاسُ مِنَ الْمَقَالَاتِ عَنِ النَّاسِ، فِي الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْحِسَابِيَّةِ، رَأَى عَجَائِبَ وَغَرَائِبَ. وَبَنُو آدَمَ لَا يَنْضَبِطُ مَا يَخْطُرُ لَهُمْ مِنَ الْآرَاءِ وَالْإِرَادَاتِ، فَإِنَّهُمْ جِنْسٌ عَظِيمُ التَّفَاوُتِ، لَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَعْظَمَ تَفَاضُلًا مِنْهُ، خِيَارُهُمْ خَيْرُ الْمَخْلُوقَاتِ عِنْدَ طَائِفَةٍ، أَوْ مِنْ خَيْرِهَا عِنْدَ طَائِفَةٍ، وَشَرُّهُمْ شَرُّ الْمَخْلُوقَاتِ، أَوْ مِنْ شَرِّهَا.
[ ص: 405 ]
قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=179وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ [سُورَةَ الْأَعْرَافِ: 179].
وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=44أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا [سُورَةَ الْفُرْقَانِ: 44].
وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=13وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [سُورَةَ الرَّعْدِ: 13].
وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=34أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=35وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ [سُورَةَ الشُّورَى: 34 ، 35].
وَنَظِيرُ هَذَا كَثِيرٌ. وَكَمَا تَنَازَعَ النُّظَّارُ فِي الْمَعْرِفَةِ: هَلْ تَحْصُلُ ضَرُورَةً، أَوْ نَظَرًا، أَوْ تَحْصُلُ بِهَذَا وَهَذَا، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، فَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28670_22311_22301مَسْأَلَةِ وُجُوبِ النَّظَرِ الْمُفْضِي إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ. فَمَنْ حَصَلَتْ لَهُ الْمَعْرِفَةُ أَوِ الْإِيمَانُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ يَحْصُلُ بِدُونِ الْمَعْرِفَةِ بِغَيْرِ النَّظَرِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ الْمَعْرِفَةُ وَلَا الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ.
[ ص: 406 ]