الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقول القائل: كيف يفعل فعلا لغاية مع علمه أنها لا تحصل؟ جوابه: أن ذلك إنما يمتنع إذا كان ليس مراده إلا تلك الغاية فقط، [ ص: 476 ] فإذا لم تحصل لم يحصل ما أراده، ومن فعل شيئا لأجل مراد يعلم أنه لا يحصل كان ممتنعا.

وبهذا يبطل قول القدرية الذين يقولون: لم يرد إلا المأمور، وما سواه واقع بغير مراده، وخلق الخلق لذلك المراد بعينه، مع علمه أنه لا يكون، وهذا تناقض. يقولون: يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء.

وأما أهل السنة الذين يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا يقع إلا ما شاءه، وإن وقع ما لم يحبه ويأمر به، فلحكمة له في ذلك باعتبارها خلقه، ولولا الغاية التي يريدها به لم يخلقه، فلا إشكال على قولهم.

وإذا علم أن الرب له مراد بما أمره، وله مراد بما خلقه، فإذا لم يحصل ما أمر به فقد حصل ما خلقه، فما حصل إلا مراده، وهو لم يخلق ذلك المعين الذي أمر به، لئلا يستلزم عدم مراد أحب إليه منه وهو ما خلقه، وقد يكون ذلك المأمور يستلزم تفويت مأمور آخر هو أحب إليه منه.

مثاله أن فرعون لو أطاع لم يحصل ما حصل من الآيات العظيمة، التي حصل بها من المأمور ما هو أعظم من إيمان فرعون. وصناديد قريش لو أطاعوا لم يحصل ما حصل من ظهور آيات الرسول، ومعجزة القرآن، [ ص: 477 ] وجهاد المؤمنين الذي حصل به من طاعة الله ومحبوبه ما هو أعظم عنده من إيمان صناديد قريش.

وعلى هذا فيجوز أن يقال: إن الله إنما خلق الجن والإنس ليعبدوه، فإن هذا هو الغاية التي أرادها منهم بأمره، وبها يحصل محبوبه، وبها تحصل سعادتهم ونجاتهم، وإن كان منهم من لم يعبده، ولم يجعله عابدا له، إذا كان في ذلك الجعل تفويت محبوبات أخر، هي أحب إليه من عبادة أولئك، وحصول مفاسد أخر، هي أبغض إليه من معصية أولئك.

ويجوز أيضا أن يقال: ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم [سورة هود:119]، فإنه أراد بخلقهم ما هم صائرون إليه من الرحمة والاختلاف. ففي تلك الآية ذكر الغاية التي أمروا بها، وهنا ذكر الغاية التي إليها يصيرون، وكلاهما مرادة له، تلك مرادة بأمره، والموجود منها مراد بخلقه وأمره. وهذه مرادة بخلقه، والمأمور منها مراد بخلقه وأمره.

وهذا معنى ما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: إلا ليعبدون [سورة الذاريات:56]، قال: معناه إلا لآمرهم أن يعبدوني [ ص: 478 ] وأدعوهم إلى عبادتي. واعتمد الزجاج هذا القول، فرواه ابن أبي نجيح عن مجاهد: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [سورة الذاريات:56]، قال: لآمرهم وأنهاهم. وروى سليمان بن عامر عن الربيع بن أنس، قال: ما خلقتهما إلا للعبادة.

وأما من قال: المراد: المؤمنون، فروى ابن مصلح عن الضحاك في قوله: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، قال هي خاص للمؤمنين.

وأما من قال: كلهم وقعت منهم العبادة التي خلقوا لها. فروى الوالبي عن ابن عباس: إلا ليعبدون: إلا ليقروا لي بالعبودية طوعا وكرها.

وقال السدي: خلقهم للعبادة، فمن العبادة عبادة تنفع، ومن العبادة عبادة لا تنفع: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [سورة لقمان:25] هذا منهم عبادة، وليس تنفعهم مع شركهم. [ ص: 479 ]

وروى ابن أبي زائدة، عن ابن جريج في قوله: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، قال: إلا ليعرفون.

روى هذه الأقوال ابن أبي حاتم بأسانيده إلا قول علي.

وذكر الثعلبي عن مجاهد: إلا ليعرفون. قال: ولقد أحسن في هذا القول، لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده. ودليل هذا التأويل قوله: ولئن سألتهم من خلقهم [سورة الزخرف:87] الآيات، قال: وروى حبان عن الكلبي: إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، بيانه: قوله: فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين [سورة العنكبوت:65]، فعلى هذه الأقوال أن جميع الإنس والجن عبدوه وعرفوه ووحدوه، وأقروا له بالعبودية طوعا وكرها.

والأولون لا ينكرون ما أثبته هؤلاء، لكن يقولون: ليست هذه هي العبادة التي خلقوا لها، وإن كان قد وجد من جميعهم معرفة به، وإقرار به، وعبودية له طوعا وكرها.

وهذا يبين أن جميع الإنس والجن مقرون بالخالق معترفون به مقرون بعبوديته طوعا وكرها، وذلك يقتضي أن هذه المعرفة من لوازم نشأتهم، وأنه لم ينفك عنها أحد منهم، مع العلم بأن النظر المعين الذي يوجبه [ ص: 480 ] الجهمية والمعتزلة لا يعرفه أكثرهم، فعلم بذلك ثبوت المعرفة والإقرار بدون هذا النظر.

وقد روى ابن جريج عن زيد بن أسلم: إلا ليعبدون قال: جبلهم على الشقاء والسعادة.

وكذلك عن وهب بن منبه: إلا ليعبدون قال: جبلهم على الطاعة وجبلهم على المعصية، ذكرهما ابن أبي حاتم

وعلى هذا فيكون المراد بالعبادة دخولهم تحت قضائه وقدره، ونفوذ مشيئته فيهم. وقد فسر بهذا ما رواه الوالبي عن ابن عباس حيث قال: إلا ليقروا لي بالعبودية طوعا وكرها.

قال الثعلبي: (فإن قيل: كيف كفروا، وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلل لأمره ومشيئته؟ قيل: إنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضاه عليهم، لأن قضاءه جار عليهم، لا يقدرون على الامتناع منه إذا نزل لهم، وإنما خالفه من كفر به في العمل بما أمر به، فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه) .

التالي السابق


الخدمات العلمية