الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإذا أريد بيان انتفاء دلالة النص على ما ادعوه من مسمى الواحد، كان هنا طرق:

أحدها: أن هذا اللفظ لم يستعمل إلا فيما نفوه دون ما أثبتوه.

الثاني: أن نبين انتفاء ما أثبتوه في الخارج، وحينئذ فلا يكون كلام الله دالا على وجود ما ليس بموجود.

الثالث: أن ما يذكرونه لا يتصوره عامة الناس: لا العرب ولا غيرهم، فلا يكون اللفظ موضوعا له ودالا عليه، وإن كان له وجود.

ولا يقال: هو بتقدير وجوده يشمله لفظ الواحد، لما تقدم من أن اللفظ المشهور بين الخاص والعام لا يكون مسماه مما لا يتصوره إلا الخاصة.

الطريق الرابع: أنه بتقدير شموله لما أثبتوه وما نفوه، فلا ريب أن شموله لما [ ص: 121 ] نفوه أظهر، إذ لم يعرف استعماله في ذلك، فلا يمكنهم دعوى اختصاص معنى الواحد بما ادعوه.

الخامس: أنه بتقدير عمومه وكونه متواطئا إنما يدل على القدر المشترك لا على خصوص ما أثبتوه.

السادس: أنه بتقدير كون أحدهما مجازا، فالحقيقة هي ما نفوه دون ما أثبتوه، لأنه المعنى الذي يسبق إلى أفهام المخاطبين.

السابع: أنه بتقدير الاشتراك اللفظي لا يجوز إرادة ما ادعوه إلا بقرينة، ويكفينا في هذا المقام ألا نستدل به على أحدهما.

الثامن: أن من يستدل به على ما نفوه، لأن القرائن اللفظية المذكورة في القرآن تدل عليه، لأنه أثبت لهذا الواحد صفات متعددة، وأفعالا متعددة، وتلك تستلزم ما نفوه لا ما أثبتوه.

التاسع: أن يقال: اسم "الأحد" لا يستعمل في حق غير الله إلا مع الإضافة، أو في غير الموجب، كقوله: قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا [سورة يوسف: 36] ، وقال: ولا يظلم ربك أحدا [سورة الكهف: 49] ، وقال: وإن أحد من المشركين استجارك [سورة التوبة: 6] ، فهو أبلغ في إثبات الوحدانية من اسم الواحد، ومع هذا فلم يستعمل إلا فيما نفوه مثل قوله: ولم يكن له كفوا أحد وأمثاله، لا يعرف استعمال "الأحد" فيما ادعوه، لا في النفي والإثبات، فكيف اسم الواحد؟ [ ص: 122 ]

العاشر: أن القرآن أثبت الوحدانية في الإلهية بقوله: وإلهكم إله واحد [سورة البقرة: 62] ، وقوله: وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون [سورة النحل: 51] ، وقوله حكاية عن المشركين: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [سورة ص: 5] .

وأمثال ذلك.

وأما كون القديم واحدا، أو الواجب واحدا، فهذا إنما يعرف عن الجهمية من المتكلمين والفلاسفة، فإنهم قالوا: القديم واحد، وهو لفظ مجمل يراد به أن الإله القديم واحد، وهذا حق، ويراد به أن مسمى القديم واحد، ثم قالوا: لو أثبتنا له الصفات لكان القديم أكثر من واحد.

وقالت جهمية الفلاسفة: الواجب واحد، وهو مجمل: يراد به الإله الواجب بذاته، وهذا حق. ويراد به مسمى الواجب ثم قالوا: لو أثبتنا له الصفات لتعدد الواجب.

ومعلوم أن التوحيد الذي في القرآن هو الأول لا هذا، وكذلك التوحيد الذي جاءت به السنة، واتفق عليه الأئمة، فتبين أن لفظ "التوحيد" و "الواحد" و "الأحد" في وضعهم واصطلاحهم، غير التوحيد والواحد والأحد في القرآن والسنة والإجماع وفي اللغة التي جاء بها القرآن. وحينئذ فلا يمكنهم الاستدلال بما جاء في كلام الله ورسله وفي [ ص: 123 ] لفظ التوحيد على ما يدعونه هم، لأن دلالة الخطاب إنما تكون بلغة المتكلم وعادته المعروفة في خطابه، لا بلغة وعادة واصطلاح أحدثه قوم آخرون، بعد انقراض عصره وعصر الذين خاطبهم بلغته وعادته، كما قال تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم [سورة إبراهيم: 4] ، بل لفظ "التوحيد" و "الأحد" و "الواحد" الموجود في كلام الله ورسوله يدل على نقيض قولهم، وأنه موصوف بالصفات الثبوتية، كما تقدم التنبيه عليه من أنه لا يعرف مسمى الواحد في لغة العرب إلا ما كان كذلك، ومن أن الله وصف هذا الواحد بالصفات الثبوتية، وسماه بالأسماء المتضمنة للمعاني الثبوتية في غير موضع. فلو قدر أن لفظ "الواحد" فيه اشتراك وإجمال، لكان ما بينه القرآن من اتصافه بالصفات الثبوتية رافعا للإجمال والاشتراك، موافقا لقول أهل الإثبات دون النفاة.

وهذه الأدلة كلما تدبرها العاقل تبين له قطعا أن هؤلاء النفاة مناقضون للرسول، هم في جانب، والرسل في جانب، كمناقضة القرامطة الباطنية وأمثالهم، وأن استدلال هؤلاء بنصوص الأنبياء على نفيهم، من جنس استدلال القرامطة على شريعتهم الإلحادية بنصوص الأنبياء.

ومما يبين ذلك أن كلام الله ورسوله صدق، بل أصدق الكلام كلام الله.

والكلام الصدق يتضمن الإخبار عن الأمور على ما هي عليه، لا على خلاف ما هي عليه، بخلاف الكلام الذي هو كذب، سواء كان [ ص: 124 ] صاحبه يعلم أنه كذب، أو كان مخطئا يظن أنه صدق مطابق للحقائق وليس كذلك، كما هو كلام هؤلاء النفاة للصفات، فإن الواحد الذي يثبتونه لا حقيقة له في الخارج، فيمتنع أن يكون كلام الله مخبرا عن وجوده في الخارج وذلك أنهم يجعلون الحقائق المتنوعة: كل واحدة هي الأخرى بلا امتياز أصلا، فيجعلون الذات القائمة بنفسها هي الصفة القائمة بها، كما يجعلون العالم عين العلم، والقادر عين القدرة.

ومنهم من يجعل العلم عين المعلوم، ويجعلون كل صفة هي الأخرى، كما يجعلون العلم هو القدرة، والقدرة هي الإرادة، أو يجعلون النوع الكلي العام المقسوم إلى أعيان هو واحدا بالعين، بحيث تكون هذه العين هي تلك العين، كما يقولون: الوجود واحد، والموجود الواجب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، الذي لا يختص بوجه من الوجوه، أو بشرط عدم كل أمر وجودي عنه، فلا يختص بكونه واجبا أو عالما أو قادرا أو حيا، أو نحو ذلك من الأمور التي توجب اختصاصه بموجود دون موجود.

وإذا حققوا الأمر لم يفرقوا بين الوجود الواجب الخالق القديم الفاطر الغني عن كل ما سواه، والوجود الممكن المحدث المخلوق المفطور الفقير الذي لا يستغني بوجه من الوجوه عن خالقه بل لا يزال فقيرا إليه.

ويجعلون الكلام المنقسم إلى الأمر والنهي والخبر هو نفس الأمر والنهي والخبر، وإن عين الكلام الذي هو أمر، عين الكلام الذي هو [ ص: 125 ] خبر، وعين الكلام الذي هو أمر بالصلاة، هو عين الكلام الذي هو أمر بالصيام، وعين الكلام الذي هو خبر عن الله، هو عين الكلام الذي هو خبر عن أبي لهب، فيجمعون في ذلك بين كون الواحد العام الكلي المشترك الذي لا يكون إلا بالذهن، هو الآحاد المعينة الموجودة في الخارج، ولا يفرقون بين الواحد بالنوع والواحد بالعين.

كما لم يفرق بين هذا وهذا أهل وحدة الوجود، الذين قالوا: الوجود واحد، وجعلوا وجود الخالق عين وجود المخلوقات، والذين قالوا: الحقائق المتنوعة كالأمر والخبر حقيقة واحدة.

فالواحد الذي يثبته النفاة - أو من أخذ ببعض أقوالهم - لا بد أن يتضمن بعض هذا، [مثل] جعل الذات هي الصفات، أو جعل كل صفة هي الأخرى، أو جعل الكل المقسوم إلى أنواع هو نفس الأعيان المختلفة الموجودة في الخارج، وجعل ما يمتنع وجوده في الخارج ولا يكون إلا في الذهن أمرا موجودا في الخارج يجب وجوده في الخارج، وجعل ما يجب وجوده في الخارج مما يمتنع وجوده في الخارج، فلا يكون إلا في الذهن.

ومنتهاهم في توحيدهم إلى إثبات واحدين: أحدهما: الجوهر الفرد الذي يثبته من يثبته من المعتزلة ومن وافقهم من أهل الكلام، مع أن [ ص: 126 ] جمهور العقلاء ينكرونه، مع دعوى النظام أن في كل جسم من ذلك ما لا يتناهى.

والثاني: الجواهر العقلية التي يثبتها من يثبتها من المتفلسفة، مع أن جمهور العقلاء يعلمون بالضرورة أنها إنما هي في الأذهان لا في الأعيان، مثل الكليات المطلقة التي توصف بها الأعيان.

وهم يقولون إن الحقائق الموجودة بالخارج - التي يسمونها الأنواع، كالإنسان والفرس وغيرها من أنواع الحيوان - مركبة من هذه، ومثل المادة الكلية والصورة الجوهرية اللتين يدعون أنهما جوهران عقليان يتركب منهما كل جسم، ومثل العقول العشرة التي يدعون أنها مجردات - فإن هؤلاء يصورون أن ما يعقله الإنسان من المعقولات المجردات المفارقات للأعيان المحسوسة، فتوهموا أن تلك المعقولات المجردات هي موجودة في الخارج مفارقات للأعيان محسوسة، وإنما هي أمور متصورة في الأذهان، لا أنها موجودة مع كونها كلية أو مع كونها مجردة في الأعيان، ثم يدعون تركب الأنواع منها، كما يدعي أولئك تركب الأعيان من الأجزاء التي يسمونها الجواهر المنفردة.

وقد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع آخر، وبين أن هذا الواحد الذي يثبتونه في العلم الإلهي والطبيعي والمنطقي لا حقيقة له إلا في الذهن. ومن تصور هذا حق التصور، تبين له من غلط هؤلاء [ ص: 127 ] وضلالهم ما يطول وصفه، وتبين له أن ضلال هؤلاء في العقليات من جنس ضلالهم في السمعيات، وأنهم كما أخبر تعالى عن أصحاب النار: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [سورة الملك: 10] .

وكان من أصول الإلحاد والتعطيل - الذي سموه توحيدا - هو فرارهم من تعدد صفات الواحد الحق، وتعدد أسمائه وكلامه، مع أن ذلك لا محذور فيه، بل هو الحق الذي لا يمكن جحده.

ومن فهم هذا انحل له ما يقوله من يقوله من المتفلسفة: إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وما يقوله من تركيب الأنواع من الأجناس والفصول، وأن ذلك الفرض الذي تتركب منه هذه الحقائق هو أيضا أمر يقدر في الذهن لا حقيقة له في الخارج، وما يقولونه من أن الواحد لا يكون فاعلا وقابلا، وأمثال ذلك مما يعبرون عنه بلفظ الواحد هو واحد يقدر في الأذهان، لا حقيقة له في الخارج.

التالي السابق


الخدمات العلمية