( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم  الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون    ) تقدم شرح الجملة الأولى في البقرة ، وشرح الثانية في هذه السورة من قريب . وقالوا هنا الضمير في ( يعرفونه ) عائد على الرسول ، قاله قتادة  والسدي   وابن جريج    . والجمهور ، ومنهم  عمر بن الخطاب  ، أو على التوحيد ، وذلك لقرب قوله : ( قل إنما هو إله واحد    ) . وفيه استشهاد على كفرة قريش  والعرب بأهل الكتاب ، أو على القرآن ، قاله فرقة; لقوله : ( وأوحي إلي هذا القرآن    ) . وقيل : يعود على جميع هذه الأشياء من التوحيد والرسول والقرآن ، كأنه ذكر أشياء ، ثم قال أهل الكتاب ( يعرفونه ) أي يعرفون ما قلنا وما قصصنا . وقيل : يعود على كتابهم; أي : يعرفون كتابهم ، وفيه ذكر نبوة محمد    - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : يعود على الدين والرسول ، فالمعنى يعرفون الإسلام أنه دين الله ، وأن محمدا  رسول الله . و ( الذين آتيناهم الكتاب    ) هنا لفظه عام ، ويراد به الخاص ، فإن هذا لا يعرفه ، ولا يقربه إلا من آمن منهم ، أو من أنصف . والكتاب التوراة والإنجيل ، ووحد ردا إلى الجنس . وقيل : الكتاب هنا القرآن . والضمير في ( يعرفونه ) عائد عليه ، ذكره الماوردي    . وقال أبو عبد الله الرازي  ما ملخصه : إن كان المكتوب في التوراة والإنجيل خروج نبي في آخر الزمان فقط ، فلا يتعين أن يكون هو محمدا    - صلى الله عليه وسلم - ، أو معينا زمانه ومكانه ونسبه وحليته وشكله ، فيكونون إذ ذاك عالمين به بالضرورة ، ولا يجوز الكذب على الجمع العظيم . ولأنا نعلم بالضرورة أن كتابهم لم يشتمل على هذه التفاصيل التامة ، وعلى هذين التقديرين ، فكيف يصح أن يقال : ( يعرفونه كما يعرفون أبناءهم    ) ؟ وأجاب بأنهم كانوا أهلا للنظر والاستدلال ، وكانوا شاهدوا ظهور المعجزات على يد الرسول ، فعرفوا بالمعجزات كونه رسولا من عند الله ، فالمقصود تشبيه معرفته بمعرفة أبنائهم بهذا القدر الذي ذكرناه انتهى . ولا يلزم ذلك التقسيم الذي ذكره; لأنه لم يقل يعرفونه بالتوراة والإنجيل ، إنما ذكر ( يعرفونه ) فجاز أن تكون هذه المعرفة مسندة إلى التوراة والإنجيل من أخبار أنبيائهم ونصوصهم ، فالتفاصيل عندهم من ذلك ، لا من التوراة والإنجيل ، فيكون معرفتهم إياه مفصلة واضحة بالأخبار   [ ص: 93 ] لا بالنظر في المعجزات ( كما يعرفون أبناءهم    ) وأيضا فلا نسلم له حصر التقسيم فيما ذكره; لأنه يحتمل قسما آخر ، وهو أن يكون التوراة والإنجيل يدلان على خروج نبي في آخر الزمان وعلى بعض أوصافه ، لا على جميع الأوصاف التي ذكرت من تعيين زمان ومكان ونسب وحلية وشكل ، ويدل على هذا القسم حديث عمر  مع  عبد الله بن سلام  ، وقوله له : إن الله أنزل على نبيه بمكة  إنكم تعرفونه ، كما تعرفون أبناءكم ، فكيف هذه المعرفة ؟ فقال  عبد الله بن سلام    : نعم أعرفه بالصفة التي وصفه الله بها في التوراة ؟ فلا أشك فيه ، وأما ابني فلا أدري ما أحدثت أمه ، ومما يدل أيضا على أن معرفتهم إياه ، لا يتعين أن يكون مستندها التوراة والإنجيل فقط . أسئلة  عبد الله بن سلام  حين اجتمع أول اجتماعه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ما أول ما يأكل أهل الجنة ؟ فحين أخبره بجواب تلك الأسئلة أسلم للوقت ، وعرف أنه الرسول الذي نبه عليه في التوراة . وحديث زيد بن سعنة  حين ذكر أنه عرف جميع أوصافه ، غير أنه لم يعرف أن حلمه يسبق غضبه ، فجرب ذلك منه ، فوجد هذه الصفة ، فأسلم . وأعرب ( الذين خسروا    ) مبتدأ ، والخبر ( فهم لا يؤمنون    ) . و ( الذين خسروا    ) على هذا أعم من أهل الكتاب الجاحدين ومن المشركين . والخسران الغبن . وروي أن لكل عبد منزلا في الجنة ومنزلا في النار ، فالمؤمنون ينزلون منازل أهل الكفر في الجنة ، والكافرون ينزلون منازل أهل الجنة في النار ، فالخسارة والربح هنا ، وجوزوا أن يكون ( الذين خسروا    ) نعتا لقوله : ( الذين آتيناهم الكتاب    ) . و ( فهم لا يؤمنون    ) جملة معطوفة على جملة ، فيكون مساق ( الذين آتيناهم الكتاب    ) ، مساق الذم لا مقام الاستشهاد بهم على كفار قريش  وغيرهم من العرب ، قالوا : لأنه لا يصح أن يستشهد بهم ، ويذموا في آية واحدة . وقال ابن عطية    : يصح ذلك لاختلاف ما استشهد فيه بهم وما ذموا فيه ، وأن الذم والاستشهاد من جهة واحدة انتهى . ويكون ( الذين خسروا    ) ، إذ ذاك ليس عاما ، إذ التقدير الذين خسروا أنفسهم منهم; أي من أهل الكتاب . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					