الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ) ، أي : فإن تظفر بهم في الحرب وتتمكن منهم فشرد بهم من خلفهم ، قال ابن عباس : فنكل بهم من خلفهم ، وقال ابن جبير : أنذر من خلفهم عن قتل من ظفر به وتنكيله ، فكان المعنى : فإن تظفر بهم فاقتلهم قتلا ذريعا حتى يفر عنك من خلفهم ويتفرق ، ولما كان التشريد وهو التطريد والإبعاد ناشئا عن قتل من ظفر به في الحرب من المعاهدين الناقضين جعل جوابا للشرط ; إذ هو يتسبب عن الجواب ، وقالت فرقة : فسمع بهم ، وحكاه الزهراوي عن أبي عبيدة ، وقال الزمخشري : من وراءهم من الكفرة حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد اعتبارا بهم واتعاظا بحالهم ، وقال الكرماني : قيل التشريد التخويف الذي لا يبقى معه القرار ، أي : لا ترض منهم إلا الإيمان ، أو السيف . وقرأ الأعمش بخلاف عنه : ( فشرذ ) ، بالذال ، وكذا في مصحف عبد الله ، قالوا : ولم تحفظ هذه المادة في لغة العرب ، فقيل : الذال بدل من الدال ، كما قالوا : لحم خراديل وخراذيل ، وقال الزمخشري : ( فشرذ ) بالذال المعجمة بمعنى ففرق ، وكأنه مقلوب شذر من قولهم : ذهبوا شذرا ، ومنه الشذر الملتقط من المعدن لتفرقه ، انتهى . وقال الشاعر :


غرائر في كن وصون ونعمة تحلين ياقوتا وشذرا مفقرا



وقال قطرب : بالذال المعجمة التنكيل ، وبالمهملة التفريق ، وقرأ أبو حيوة والأعمش بخلاف عنه : ( من خلفهم ) ، جارا ومجرورا ، ومفعول فشرد محذوف ، أي : ناسا من خلفهم ، والضمير في لعلهم يظهر أنه عائد على ( من خلفهم ) وهم المشردون ، أي : لعلهم يتعظون بما جرى لنا ، قضي العهد ، أو يتذكرون بوعدك إياهم ، وقيل : الضمير عائد إلى المثقوفين ، وفيه بعد ; لأن من قتل لا يتذكر .

( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ) الظاهر أن هذا استئناف كلام أخبره الله تعالى بما يصنع في المستقبل مع من يخاف منه خيانة إلى سالف الدهر . وقال مجاهد : هي في بني قريظة ، ولا يظهر ما قال ; لأن بني قريظة لم يكونوا في حد من خاف منه خيانة ; لأن خيانتهم كانت ظاهرة مشهورة ، ولقوله : من قوم ، فلو كانت في بني قريظة لقال : وإما تخافن منهم ، وقال يحيى بن سلام : تخافن بمعنى تعلم ، وحكاه بعضهم أنه قول الجمهور ; وقيل : الخوف على بابه ، فالمعنى أنه يظهر منهم مبادئ الشر ، وينقل عنهم أقوال تدل على الغدر ، فالمبادئ معلومة ، والخيانة التي هي غاية المبادئ مخوفة لا متيقنة ، ولفظ الخيانة دال على تقدم عهد ; لأنه من لا عهد بينك وبينه لا تكون محاربته خيانة ، فأمر الله تعالى نبيه إذا أحس من أهل عهد ما ذكرنا وخاف خيانتهم أن يلقي إليهم عهدهم ، وهو النبذ ، ومفعول فانبذ محذوف ، التقدير : فانبذ إليهم عهدهم ، أي : ارمه واطرحه ، وفي قوله : فانبذ عدم اكتراث به ، كقوله : ( فنبذوه وراء ظهورهم ) ، ( فنبذناهم في اليم ) ، كما قال :


نبذ الحذاء المرقع

وكأنه لا ينبذ ولا يرمي إلا الشيء التافه الذي لا يبالي به ، وقوة هذا اللفظ تقتضي حربهم ، ومناجزتهم أن يستقصوا ، ومعنى ( على سواء ) ، أي : على طريق مستو قصد ، وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد وتخبرهم إخبارا مكشوفا بينا أنك قطعت ما بينك وبينهم ، ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد ، فيكون ذلك خيانة منك ( إن الله لا يحب الخائنين ) فلا يكن منك إخفاء للعهد ، قاله الزمخشري بلفظه ، وغيره كابن عباس بمعناه ، وقال الوليد بن مسلم : ( على سواء ) على مهل ، كما قال تعالى : ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ) الآية . وقال الفراء المعنى : فانبذ إليهم على اعتدال وسواء من الأمر ، أي : بين لهم على قدر ما ظهر منهم لا تفرط ولا تفجأ بحرب ، بل افعل بهم مثل ما فعلوا بك يعني موازنة ومقايسة . وقرأ زيد بن علي سواء بكسر [ ص: 510 ] السين ، وظاهر ( إن الله ) أن يكون تعليلا لقوله : فانبذ ، أي : فانبذ إليهم على سواء على تبعد من الخيانة ( إن الله لا يحب الخائنين ) ، ويحتمل أن يكون طعنا على الخائنين الذين عاهدهم الرسول ، ويحتمل على سواء أن يكون في موضع الحال من الفاعل في فانبذ ، أي : كائنا على طريق قصد ، أو من الفاعل والمجرور ، أي : كائنين على استواء في العلم أو في العداوة .

( ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ) قال الزهري : نزلت فيمن أفلت من الكفار في بدر ، فالمعنى : لا تظنهم ناجين مفلتين ، فإنهم لا يعجزون طالبهم ، بل لا بد من أخذهم ، قيل : وذلك في الدنيا ، ولا يفوتون بل يظفرك الله بهم ; وقيل : في الآخرة ، قاله الحسن ، وقيل : الذين كفروا عام ، قاله ابن عباس : وأعجز : غلب وفات ، قال سويد :


وأعجزنا أبو ليلى طفيل     صحيح الجلد من أثر السلاح



وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ، ولا ( يحسبن ) بالياء ، أي : ولا يحسبن الرسول ، أو حاسب ، أو المؤمن ، أو فيه ضمير يعود على من خلفهم فيكون مفعولا ، يحسبن الذين كفروا ، وسبقوا ، القراءة باقي السبعة بالتاء خطابا للرسول ، أو للسامع ، وجوزوا أن يكون في قراءة الياء فاعل لا يحسبن هو الذين كفروا ، وخرج ذلك على حذف المفعول الأول لدلالة المعنى عليه ، تقديره : أنفسهم سبقوا ، وعلى إضمار أن قبل سبقوا فحذفت وهي مرادة ، فسدت مسد مفعولي يحسبن ، ويؤيده قراءة عبد الله : أنهم سبقوا ; وقيل : التقدير : ولا تحسبنهم الذين كفروا ، فحذف الضمير لكونه مفهوما ، وقد رددنا هذا القول في أواخر آل عمران ، وعلى أن الفاعل هو الذين كفروا ، خرج الزمخشري قراءة الياء ، وذكر نقل توجيهها على حذف المفعول إما الضمير ، وإما أنفسهم ، وإما حذف أن ، وإما أن الفعل وقع على أنهم لا يعجزون ، على أن لا صلة وسبقوا في موضع الحال ، يعني : سابقين ، أو مفلتين هاربين ، وعلى ولا تحسبن قتيل المؤمنين الذين كفروا سبقوا ، ثم قال : وهذه الأقاويل كلها متمحلة ، وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة ، انتهى ، ولم يتفرد بها حمزة كما ذكر ، بل قرأ بها ابن عامر ، وهو من العرب الذين سبقوا اللحن ، وقرأ علي وعثمان وحفص عن عاصم وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وأبو عبد الرحمن وابن محيصن وعيسى والأعمش ، وتقدم ذكر توجيهها على غير ما نقل مما هو جيد في العربية ، فلا التفات لقوله : وليست بنيرة ، وتقدم ذكر في فتح السين وكسرها في قوله : ( يحسبهم الجاهل أغنياء ) ، وأما قوله : وقيل : وقع على أنهم لا يعجزون على أن لا صلة ، فهذا لا يتأتى على قراءة حمزة ; لأنه يقرأ بكسر الهمزة ، ولو كان واقعا عليه لفتح أن ، وإنما فتحها من السبعة ابن عامر وحده ، واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر ، ولا استبعاد فيها ; لأنها تعليل للنهي ، أي : لا تحسبنهم فائتين ; لأنهم لا يعجزون ، أي : لا يقع منك حسبان لفوتهم ; لأنهم لا يعجزون ، أي : لا يفوتون ، وقرأ الأعمش : ولا يحسب ، بفتح السين والياء من تحت وحذف النون ، وينبغي أن يخرج على حذف النون الخفيفة لملاقاة الساكن ، فيكون كقوله :


لا تهين الفقير علك أن     تركع يوما والدهر قد رفعه



وقرأ ابن محيصن : ( لا تعجزوني ) ، بكسر النون وياء بعدها ، وقال الزجاج : الاختيار فتح النون ، ويجوز كسرها على أن المعنى : إنهم لا يعجزونني ، وتحذف النون الأولى لاجتماع النونين ، كما قال الشاعر :

[ ص: 511 ]

تراه كالثغام يعل مسكا     يسوء الغالبات إذا فليني



البيت لعمرو بن معدي كرب ، وقال أبو الحسن الأخفش في قول متمم بن نويرة :


ولقد علمت ولا محالة أنني     للحادثات فهل تريني أجزع



فهذا يجوز على الاضطرار ، فقال قوم : حذف النون الأولى وحذفها لا يجوز ; لأنها في موضع الإعراب ، وقال المبرد : أرى فيما كان مثل هذا حذف الثانية ، وكذا كان يقول في بيت عمرو ، وقرأ طلحة بكسر النون من غير تشديد ولا ياء ، وعن ابن محيصن تشديد النون وكسرها ، أدغم نون الإعراب في نون الوقاية ، وعنه أيضا بفتح النون وتشديد الجيم وكسر النون ، قال النحاس : وهذا خطأ من وجهين : أحدهما : أن معنى عجزه ضعفه وضعف أمره ، والآخر : أنه كان يجب أن يكون بنونين ، انتهى ، أما كونه بنون واحدة ، فهو جائز لا واجب ، وقد قرئ به في السبعة ، وأما عجزني مشددا ، فذكر صاحب اللوامح أن معناه بطأ وثبط ، قال : وقد يكون بمعنى نسبني إلى العجز ، والتشديد في هذه القراءة من هذا المعنى فلا تكون القراءة خطأ ، كما ذكر النحاس .

( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) لما اتفق في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا تكميل آلة ولا عدة ، وأمره تعالى بالتشريد وبنبذ العهد للناقضين كان ذلك سبيلا للأخذ في قتاله والتمالؤ عليه ، فأمره تعالى للمؤمنين بإعداد ما قدروا عليه من القوة للجهاد ، والإعداد : الإرصاد ، وعلق ذلك بالاستطاعة لطفا منه تعالى ، والمخاطبون هم المؤمنون ، والضمير في لهم عائد على الكفار المتقدمي الذكر ، وهم المأمور بحربهم في ذلك الوقت ويعم من بعدهم . وقيل : يعود على الذين ينبذ إليهم العهد ، والظاهر العموم في كل ما يتوقى به على حرب العدو مما أورده المفسرون على سبيل الخصوص ، والمراد به التمثيل ، كالرمي وذكور الخيل وقوة القلوب واتفاق الكلمة والحصون المشيدة وآلات الحرب وعددها والأرواد والملابس الباهية ، حتى إن مجاهدا رؤي يتجهز للجهاد وعنده جوالق ، فقال : هذا من القوة ، وأما ما ورد في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ، يقول : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ، ألا وإن القوة الرمي ، ألا وإن القوة الرمي ، فمعناه : والله أعلم أن معظم القوة وأنكاها للعدو الرمي ، كما جاء : الحج عرفة ، وجاء في فضل الرمي أحاديث ، وعلى ما اخترناه من عموم القوة يكون قوله : ( ومن رباط الخيل ) تنصيص على فضل رباط الخيل ، إذا كانت الخيل هي أصل الحروب ، والخير معقود بنواصيها ، وهي مراكب الفرسان الشجعان ، وقال أبو زيد : الرباط من الخيل الخمس فما فوقها ، وجماعة ربط وهي التي ترتبط ، يقال منه : ربط ربطا وارتبط ، انتهى ، قال :


تلوم على ربط الجياد وحبسها     وأوصى بها الله النبي محمدا



[ ص: 512 ] قال ابن عطية : ورباط الخيل جمع ربط ، ككلب وكلاب ، ولا يكثر ربطها إلا وهي كثيرة ، ويجوز أن يكون الرباط مصدرا من ربط كصاح صياحا ; لأن مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس ، وإن جعلناه مصدرا من رابط ، وكان ارتباط الخيل واتخاذها يفعله كل واحد لفعل آخر ، فيرابط المؤمنون بعضهم بعضا ، فإذا ربط كل واحد منهم فرسا لأجل صاحبه ، فقد حصل بينهم رباط ، وذلك الذي حض في الآية عليه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : من ارتبط فرسا في سبيل الله ، فهو كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، انتهى ، فجوز في رباط أن يكون جمعا لربط ، وأن يكون مصدرا الربط والرابط ، وقوله : لأن مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس ليس بصحيح ، بل لها مصادر منقاسة ذكرها النحويون ، وقال الزمخشري : والرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ، ويجوز أن تسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة ، ويجوز أن يكون جمع ربيط ، كفصيل وفصال ، وقرأ الحسن وأبو حيوة وعمرو بن دينار : ( ومن ربط ) بضم الراء والباء ، وعن أبي حيوة والحسن أيضا : ( ربط ) ، بضم الراء وسكون الباء ، وذلك ، نحو : كتاب وكتب وكتب ، قال ابن عطية : وفي جمعه ، وهو مصدر غير مختلف نظر ، انتهى ، ولا يتعين كونه مصدرا ، ألا ترى إلى قول أبي زيد : إنه من الخيل الخمس فما فوقها ، وإن جماعها ربط وهي التي ترتبط ، والظاهر عموم الخيل ذكورها وإناثها ، وقال عكرمة : رباط الخيل إناثها ، وفسر القوة بذكورها ، واستحب رباطها بعض العلماء لما فيها من النتاج ، كما قال : بطونها كنز ; وقيل : رباط الخيل الذكور منها لما فيها من القوة والجلد على القتال والكفاح والكر والفر والعدو ، والضمير في به عائد على ما من قوله : ما استطعتم ; وقيل : على الإعداد ; وقيل : على القوة ; وقيل : على رباط ، وترهبون ، قالوا : حال من ضمير وأعدوا ، أو من ضمير لهم ، ويحصل بهذا الارتباط والإرهاب فوائد منها : أنهم لا يقصدون دخول دار الإسلام ، وباشتداد الخوف قد يلتزمون الجزية ، أو يسلمون ، أو لا يعينون سائر الكفار ، وقرأ الحسن ويعقوب وابن عقيل لأبي عمرو : ( ترهبون ) ، مشددا عدي بالتضعيف ، كما عدي بالهمزة ، قال أبو حاتم : وزعم عمرو أن الحسن قرأ : ( يرهبون ) ، بالياء من تحت وخففها ، انتهى ، والضمير في يرهبون عائد على ما عاد عليه لهم وهم الكفار ، والمعنى : أن الكفار إذا علموا بما أعددتم للحرب من القوة ورباط الخيل خوفوا من يليهم من الكفار وأرهبوهم ; إذ يعلمونهم ما أنتم عليه من الإعداد للحرب فيخافون منكم ، وإذا كانوا قد أخافوا من يليهم منكم ، فهو أشد خوفا لكم ، وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد : تخزون به ، مكان ترهبون به ، وذكرها الطبري على جهة التفسير لا على جهة القراءة ، وهو الذي ينبغي ; لأنه مخالف لسواد المصحف ، وقرأ السلمي : ( عدوا لله ) ، بالتنوين ولام الجر ، قال صاحب اللوامح : فقيل : أراد به اسم الجنس ، ومعناه : أعداء الله ، وإنما جعله نكرة بمعنى العامة ; لأنها نكرة أيضا لم تتعرف بالإضافة إلى المعرفة ; لأنه اسم الفاعل ، ومعناه الحال والاستقبال ، ولا يتعرف ذلك ، وإن أضيف إلى المعارف ، وأما ( عدوكم ) فيجوز أن يكون كذلك نكرة ، ويجوز أن يكون قد تعرف لإعادة ذكره ، ومثله رأيت صاحبا لكم فقال لي صاحبكم ، والله أعلم ، انتهى ، وذكر أولا عدو الله تعظيما لما هم عليه من الكفر ، وتقوية لذمهم ، وأنه يجب لأجل عداوتهم لله أن يقاتلوا ويبغضوا ، ثم قال : وعدوكم على سبيل التحريض على قتالهم ; إذ في الطبع أن يعادي الإنسان من عاداه وأن يبغي له الغوائل ، والمراد بهاتين الصفتين من قرب من الكفار من ديار الإسلام من أهل مكة ومشركي العرب ، قيل ، ويجوز أن يراد جميع الكفار ( وآخرين من دونهم ) أصل دون أن تكون ظرف مكان حقيقة ، أو مجاز . قال ابن عطية : من [ ص: 513 ] دونهم بمنزلة قولك : دون أن تكون هؤلاء ، فدون في كلام العرب ، ومن دون تقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة التي فيها القول ، ومنه المثل : وأمر دون عبيدة الوزم ، قال وآخرين : بنو قريظة ، وقال مقاتل : اليهود ، وقال السدي : أهل فارس ، وقالت فرقة : كفار الجن ، ورجحه الطبري ، واستند في ذلك إلى ما روي من أن صهيل الخيل تنفر الجن منه ، وأن الشياطين لا تدخل دارا فيها فرس الجهاد ، ونحو هذا ، وقالت فرقة : هم كل عدو للمسلمين غير الفرقة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرد بهم من خلفهم ، وقال ابن زيد : هم المنافقون ، وهذا أظهر ; لأنه قال لا تعلمونهم الله يعلمهم ، أي : لا تعلمون أعيانهم وأشخاصهم ; إذ هم متسترون عن أن تعلموهم بالإسلام ، فالعلم هنا كالمعرفة تعدى إلى واحد ، وهو متعلق بالذوات ، وليس متعلقا بالنسبة ، ومن جعله متعلقا بالنسبة فقدر مفعولا ثانيا محذوفا وقدره محاربين فقد أبعد ; لأن حذف مثل هذا دون تقدم ذكر ممنوع عند بعض النحويين وعزيز جدا عند بعضهم ، فلا يحمل القرآن عليه مع إمكان حمل اللفظ على غيره وتمكنه من المعنى ، وقدره بعضهم : لا تعلمونهم فازعين راهبين ، الله يعلمهم بتلك الحالة ، والظاهر أن يكون إشارة إلى المنافقين ، كما قلنا على جهة الطعن عليهم والتنبيه على سوء حالهم ، وليستريب بنفسه كل من يعلم منها نفاقا إذا سمع الآية ، وبفزعهم ورهبتهم غنى كبير في ظهور الإسلام وعلوه ، وقال القرطبي ما معناه : لا ينبغي أن يعين قوله : وآخرين ; لأنه تعالى قال : ( لا تعلمونهم الله يعلمهم ) فكيف يدعي أحد علما بهم ، إلا أن يصح حديث فيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، انتهى ، ثم حض تعالى على النفقة في سبيل الله من جهاد وغيره ، وكان الصحابة يحمل واحد الجماعة على الخيل والإبل ، وجهز عثمان جيش العسرة بألف دينار ، يوف إليكم : جزاؤه وثوابه من غير نقص ; وقيل : هذه التوفية في الدنيا على ما أنفقوا مع ما أعد لهم في الآخرة من الثواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية