الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ) [ ص: 333 ] هو لوط بن هارون أخي إبراهيم - عليه السلام - وناحور وهم بنو تارح بن ناحور وتقدم رفع نسبه ، وقوله هم أهل سدوم وسائر القرى المؤتفكة بعثه الله تعالى إليهم ، وقال ابن عطية : بعثه الله إلى أمة تسمى سدوم وانتصب ( لوطا ) بإضمار وأرسلنا عطفا على الأنبياء قبله ، و ( إذ ) معمولة ( لأرسلنا ) وجوز الزمخشري ، وابن عطية نصبه بـ " واذكر " مضمرة ، زاد الزمخشري أن ( إذ ) بدل من لوط ، أي : واذكر وقت قال لقومه ، وقد تقدم الكلام على كون إذ تكون مفعولا بها صريحا لاذكر ، وأن ذلك تصرف فيها ، والاستفهام هو على جهة الإنكار والتوبيخ والتشنيع والتوقيف على هذا الفعل القبيح ، والفاحشة هنا إتيان ذكران الآدميين في الأدبار ولما كان هذا الفعل معهودا قبحه ومركوزا في العقول فحشه أتى معرفا بالألف واللام ، أو تكون أل فيه للجنس على سبيل المبالغة كأنه لشدة قبحه جعل جميع الفواحش ولبعد العرب عن ذلك البعد التام ، وذلك بخلاف الزنا فإنه قال فيه : ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ) فأتى به منكرا ، أي : فاحشة من الفواحش وكان كثير من العرب يفعله ولا يستنكرون من فعله ولا ذكره في أشعارهم ، والجملة المنفية تدل على أنهم هم أول من فعل هذه الفعلة القبيحة ، وأنهم مبتكروها ، والمبالغة في ( من أحد ) حيث زيدت لتأكيد نفي الجنس ، وفي الإتيان بعموم العالمين جمعا .

قال عمر بن دينار : ما رئي ذكر على ذكر قبل قوم لوط روي أنهم كان يأتي بعضهم بعضا ، وقال الحسن : كانوا يأتون الغرباء ، كانت بلادهم الأردن تؤتى من كل جانب لخصبها فقال لهم إبليس وهو في صورة غلام إن أردتم دفع الغرباء فافعلوا بهم هكذا ، فمكنهم من نفسه تعليما ، ثم فشا واستحلوا ما استحلوا وأبعد من ذهب إلى أن المراد من عالمي زمانهم ومن ذهب إلى أن المعنى ( ما سبقكم ) إلى لزومها ويشهدها وفي تسمية هذا الفعل بالفاحشة دليل على أنه يجري مجرى الزنا يرجم من أحصن ويجلد من لم يحصن ، وفعله عبد الله بن الزبير أتي بسبعة منهم فرجم أربعة أحصنوا وجلد ثلاثة وعنده ابن عمر ، وابن عباس ولم ينكروا ، وبه قال الشافعي ، وقال مالك : يرجم أحصن ، أو لم يحصن ، وكذا المفعول به إن كان محتلما . وعنده يرجم المحصن ويؤدب ويحبس غير المحصن وهو مذهب ابن عطية ، وابن المسيب والنخعي ، وغيرهم ، وعن مالك أيضا يعزر أحصن أو لم يحصن ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وحرق خالد بن الوليد رجلا يقال له الفجاء عمل ذلك العمل وذلك برأي أبي بكر وعلي ، وأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجمع رأيهم عليه وفيهم علي بن أبي طالب ، وروي أن ابن الزبير أحرقهم في زمانه وخالد القسري بالعراق وهشام .

و ( ما سبقكم ) جملة حالية من الفاعل ، أو من ( الفاحشة ) ؛ لأن في سبقكم بها ضميرهم وضميرها ، وقال الزمخشري : هي جملة مستأنفة أنكر عليهم أولا بقوله : ( أتأتون الفاحشة ) ، ثم وبخهم عليها فقال : أنتم أول من عملها ، أو على أنه جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا لم لا نأتيها فقال ما سبقكم بها أحد فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به ، وقال الزمخشري : والباء للتعدية من قولك سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله ومنه قوله - عليه السلام - سبقك بها عكاشة . انتهى . ومعنى التعدية هنا قلق جدا ؛ لأن الباء المعدية في الفعل المتعدي إلى واحد هي بجعل المفعول الأول [ ص: 334 ] يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة ، وبيان ذلك أنك إذا قلت صككت الحجر بالحجر فمعناه أصككت الحجر الحجر ، أي : جعلت الحجر يصك الحجر ، وكذلك دفعت زيدا بعمرو عن خالد معناه أدفعت زيدا عمرا عن خالد ، أي : جعلت زيدا يدفع عمرا عن خالد ، فللمفعول الأول تأثير في الثاني ولا يتأتى هذا المعنى هنا إذ لا يصح أن يقدر أسبقت زيدا الكرة ، أي : جعلت زيدا يسبق الكرة إلا بمجاز متكلف ، وهو أن تجعل ضربك للكرة أول جعل ضربة قد سبقها ، أي : تقدمها في الزمان فلم يجتمعا .

التالي السابق


الخدمات العلمية