( فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين    ) ذكر أن السبب في نزولها أنهم قالوا للرسول : من قتل الشاة التي ماتت ؟ قال : " الله " ، قالوا : فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك وما قتله الصقر والكلب حلال ، وما قتله الله حرام   . وقال عكرمة    : لما أنزل تحريم الميتة كتب مجوس فارس إلى مشركي قريش  ، وكانوا أولياءهم في الجاهلية وبينهم مكاتبة : إن محمدا  وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ، ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال ، وما ذبح الله فهو حرام ، فوقع   [ ص: 211 ] في أنفس ناس من المسلمين ، فأنزل الله ( ولا تأكلوا مما    ) ، ولما تضمنت الآية التي قبلها الإنكار على اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال ، وكانوا يسمون في كثير مما يذكرونه اسم آلهتهم ، أمر المؤمنين بأكل ما سمي على ذكاته اسم الله لا غيره من آلهتهم أمر إباحة ، وما ذكر اسم الله عليه فهو المذكى لا ما مات حتف أنفه . وقال  الزمخشري    : ( فكلوا ) متسبب عن إنكار اتباع المضلين ، وعلق أكل ما سمي الله على ذكاته بالإيمان ، كما تقول : أطعني إن كنت ابني ، أي : أنتم مؤمنون فلا تخالفوا أمر الله وهو حث على أكل ما أحل وترك ما حرم . 
( وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه     ) أي : وأي غرض لكم في الامتناع من أكل ما ذكر اسم الله عليه ؟ وهو استفهام يتضمن الإنكار على من امتنع من ذلك ، أي : لا شيء يمنع من ذلك ، ( وقد فصل لكم    ) في هذه السورة لأنها - على ما نقل - مكية ، ونزلت في مرة واحدة ، فلا يناسب أن تكون ( وقد فصل    ) راجعا إلى تفصيل البقرة والمائدة لتأخيرهما في النزول عن هذه السورة . وقال  الزمخشري    : ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم    ) مما لم يحرم عليكم ، وهو قوله : ( حرمت عليكم الميتة    ) . انتهى . وذكرنا أن تفصيل التحريم بما في البقرة والمائدة لا يناسب ، ودعوى زيادة ( لا ) هنا لا حاجة إليها ، والمعنى على كونها نافية صحيح واضح ، و ( ألا تأكلوا    ) أصله : في أن لا تأكلوا ، فحذف ( في ) المتعلقة بما تعلق به ( لكم ) الواقع خبرا لما الاستفهامية ، ونفي ( ألا تأكلوا    ) ، على الخلاف أهو منصوب أو مجرور ، ومن ذهب إلى أن ( ألا تأكلوا    ) في موضع الحال ، أي : تاركين الأكل ، فقوله ضعيف ; لأن ( أن ) ومعمولها لا يقع حالا ، وهذا منصوص عليه من  سيبويه  ، ولا نعلم مخالفا له ممن يعتبر ، وله علة مذكورة في النحو ، والجملة من قوله : ( وقد فصل    ) في موضع الحال . وقرأ العربيان وابن كثير    : ( فصل ) و ( حرم ) مبنيا للمفعول ، ونافع  وحفص    : ( فصل ) و ( حرم ) على بنائهما للفاعل ، والأخوان وأبو بكر    : ( فصل ) مبنيا للفاعل و ( حرم ) مبنيا للمفعول ، وعطية  كذلك إلا أنه خفف الصاد ، والمعنى : ( إلا ما اضطررتم إليه    ) من ( ما حرم عليكم    ) في حالة الاختيار فإنه حلال لكم في حالة الاضطرار . قال ابن عطية    : وما يريد بها جميع ما حرم كالميتة وغيرها ، قال هو والحوفي  ، وهي في موضع نصب بالاستثناء ، أو الاستثناء منقطع . وقال أبو البقاء    : ( ما ) في موضع نصب على الاستثناء من الجنس من طريق المعنى ، كأنه وبخهم بترك الأكل مما سمي عليه ، وذلك يتضمن إباحة الأكل مطلقا . 
( وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم    ) أي : وإن كثيرا من الكفار المجادلين في المطاعم وغيرها ليضلون بالتحريم والتحليل وبأهوائهم وشهواتهم بغير علم  ، أي : بغير شرع من الله بل بمجرد أهوائهم ، كعمرو بن لحي  ومن دونه من المشركين كأبي الأحوص بن مالك الجشمي  وبديل بن ورقاء الخزاعي  وحليس بن يزيد القرشي  ، الذين اتخذوا البحائر والسوائب . وقرأ ابن كثير  وأبو عمرو    : ( ليضلون ) بفتح الياء هنا ، وفي يونس ( ربنا ليضلوا    ) ، وفي إبراهيم ( أندادا ليضلوا    ) ، وفي الحج ( ثاني عطفه ليضل    ) ، وفي لقمان ( ليضل عن سبيل الله    ) ، وفي الزمر ( أندادا ليضل    ) ، وضمها الكوفيون  في الستة ، وافقهم الصاحبان ، إلا في يونس وهنا ففتح . 
( إن ربك هو أعلم بالمعتدين    ) أي : بالمجاوزين   [ ص: 212 ] الحد في الاعتداء فيحللون ويحرمون من غير إذن الله ، وهذا إخبار يتضمن الوعيد الشديد لمن اعتدى ، أي : فيجازيهم على اعتدائهم . 
( وذروا ظاهر الإثم وباطنه    ) ( الإثم ) عام في جميع المعاصي ، لما عتب عليهم في ترك أكل ما سمي الله عليه أمروا بترك ( الإثم ) ما فعل ظاهرا وما فعل في خفية ، فكأنه قال : اتركوا المعاصي ظاهرها وباطنها ، قاله أبو العالية  ومجاهد  وقتادة  وعطاء   وابن الأنباري   والزجاج    . وقال  ابن عباس    : ظاهره الزنا . وقال  السدي    : الزنا الشهير الذي كانت العرب تفعله وباطنه اتخاذ الأخدان . وقال ابن جبير    : ظاهره ما نص الله على تحريمه بقوله : ( حرمت عليكم    ) الآية ، ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء    ) الآية . والباطن الزنا . وقال ابن زيد    : ظاهره نزع أثوابهم إذ كانوا يطوفون بالبيت عراة ، وباطنه الزنا . وقيل : ظاهره عمل الجوارح وباطنه عمل القلب من الكبر والحسد والعجب وسوء الاعتقاد وغير ذلك من معاصي القلب . وقيل : ظاهره الخمر وباطنه النبيذ ، وقال مجاهد  أيضا : ظاهره الزنا وباطنه ما نواه . وقال الماتريدي    : الأليق أن يحمل ( ظاهر الإثم وباطنه    ) على أكل الميتة وما لم يذكر اسم الله عليه ، وقال مقاتل    : ( الإثم ) هنا الشرك ، وقال غيره : جميع الذنوب سوى الشرك ، وكل هذه الأقوال تخصيصات لا دليل عليها ، والظاهر العموم في المعاصي كلها من الشرك وغيره ، ظاهرها وخفيها ، ويدخل في هذا العموم كل ما ذكروه . 
( إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون    ) أي : يكسبون الإثم في الدنيا سيجزون في الآخرة ، وهذا وعيد وتهديد للعصاة . 
				
						
						
