[ ص: 45 ] ثم بين تعالى
nindex.php?page=treesubj&link=8211حكم من لا ثقة بعهودهم من الكفار الذين يخشى منهم نقضها عندما تسنح لهم غرة فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=58وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء أي : وإن تتوقع من قوم خيانة بنقض عهدك معهم بأن يظهر لك من الدلائل والقرائن ما ينذر به ، فاقطع عليهم طريق الخيانة لك قبل وقوعه ، بأن تنبذ إليهم عهدهم ، أي تعلمهم بفسخه ، وعدم تقيدك به ، ولا اهتمامك بأمرهم فيه - شبه ما لا ثقة بوفائهم به من عهودهم بالشيء الذي يلقى باحتقار ، ويرمى كالنوى التي يلفظها الآكل ، ويرميها تحت قدميه - انبذه إليهم على سواء ، أي على طريق سوي واضح لا خداع فيه ، ولا استخفاء ولا خيانة ، ولا ظلم وقال
البغوي : يقول أعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم ، حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء ، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب معهم . اهـ . وأما الذين ينقضون العهد بالفعل فلا حاجة إلى نبذ المسلمين عهدهم إليهم ، بل يناجزون الحرب عند الإمكان كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين نقضت
قريش عهد
الحديبية بينه وبينهم بمظاهرة
بكر على
خزاعة الذين كانوا في ذمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
والحكمة في هذا النبذ لعهد من ذكر ، بل العلة له أن
nindex.php?page=treesubj&link=18853الإسلام لا يبيح لأهله الخيانة مطلقا ، فكيف تقع من أكمل البشر الذي كان يلقبه أهل وطنه منذ تمييزه بالأمين ، ثم بعثه الله ليتمم مكارم الأخلاق ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=58إن الله لا يحب الخائنين بنقض عهودهم مع الناس ، ولا يغير ذلك ، فالخيانة مبغوضة عند الله بجميع صورها ومظاهرها ، فلا وسيلة إذا لاتقاء ضرر خيانة المعاهدين من الكفار إذا ظهرت أماراتها منهم مع عدم إباحة معاملتهم بمثلها مع بقاء العهد من جهتنا ، وعدم جواز حسبانه كما يقول الأقوياء من ملوك أوربة : " قصاصة ورق " - إلا نبذ عهدهم جهرا ، وقد تكون هذه الوسيلة مانعة من خيانة العقلاء منهم ، الذين يتقون عاقبة نقض العهد إذا كانوا ضعفاء لا يتجرءون على الخيانة إلا إذا كانوا آمنين من معاملة الرسول والمؤمنين لهم معاملة الأعداء المحاربين ومناجزتهم إياهم القتال ، كما دل عليه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=56وهم لا يتقون .
روى
البيهقي في شعب الإيمان عن
nindex.php?page=showalam&ids=17188ميمون بن مهران قال : ثلاثة المسلم والكافر فيهن سواء -
nindex.php?page=treesubj&link=30945من عاهدته فوف بعهده مسلما كان أو كافرا ، فإنما العهد لله ،
nindex.php?page=treesubj&link=27175_18043ومن كانت بينك وبينه رحم فصلها مسلما كان أو كافرا ،
nindex.php?page=treesubj&link=32455ومن ائتمنك على أمانة فأدها إليه مسلما كان أو كافرا . وروي فيها عن
nindex.php?page=showalam&ids=16027سليم بن عامر قال : كان بين
معاوية وبين
الروم عهد ، وكان يسير حتى يكون قريبا من أرضهم ، فإذا انقضت المدة أغار عليهم ، فجاءه
nindex.php?page=showalam&ids=81عمرو بن عنبسة ـ رضي الله عنه ـ فقال : وفاء لا غدر ، سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول
من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقده ولا يحلها حتى ينقضي أمرها وينبذ إليهم على [ ص: 46 ] سواء قال : فرجع
معاوية بالجيوش . فهذا صحابي وعظ قائدا صحابيا من الاستعداد للحرب في وقت عهد السلم فاتعظ ورجع .
وفي هذه الآية والآثار الواردة في معناها من مراعاة الحق والعدل في الحرب ما انفرد به الإسلام دون الشرائع السابقة ، وقوانين المدنية اللاحقة . ومع هذه الفضائل والمزايا كلها يطعن دعاة النصرانية وغيرهم من مكابري الحق في هذا الدين ، وفي أخلاق من أنزل الله تعالى عليه هذه الأحكام الشريفة وقال له :
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=4وإنك لعلى خلق عظيم ( 68 : 4 ) .
[ ص: 45 ] ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى
nindex.php?page=treesubj&link=8211حُكْمَ مَنْ لَا ثِقَةَ بِعُهُودِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُخْشَى مِنْهُمْ نَقْضَهَا عِنْدَمَا تَسْنَحُ لَهُمْ غِرَّةٌ فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=58وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ أَيْ : وَإِنْ تَتَوَقَّعْ مَنْ قَوْمٍ خِيَانَةً بِنَقْضِ عَهْدِكَ مَعَهُمْ بِأَنْ يَظْهَرَ لَكَ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْقَرَائِنِ مَا يُنْذِرُ بِهِ ، فَاقْطَعْ عَلَيْهِمْ طَرِيقَ الْخِيَانَةِ لَكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ ، بِأَنْ تَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ ، أَيْ تُعْلِمَهُمْ بِفَسْخِهِ ، وَعَدَمِ تَقَيُّدِكَ بِهِ ، وَلَا اهْتِمَامِكَ بِأَمْرِهِمْ فِيهِ - شَبَّهَ مَا لَا ثِقَةَ بِوَفَائِهِمْ بِهِ مِنْ عُهُودِهِمْ بِالشَّيْءِ الَّذِي يُلْقَى بِاحْتِقَارٍ ، وَيُرْمَى كَالنَّوَى الَّتِي يَلْفِظُهَا الْآكِلُ ، وَيَرْمِيهَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ - انْبِذْهُ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ، أَيْ عَلَى طَرِيقٍ سَوِيٍّ وَاضِحٍ لَا خِدَاعَ فِيهِ ، وَلَا اسْتِخْفَاءَ وَلَا خِيَانَةَ ، وَلَا ظُلْمَ وَقَالَ
الْبَغَوِيُّ : يَقُولُ أَعْلِمْهُمْ قَبْلَ حَرْبِكَ إِيَّاهُمْ أَنَّكَ قَدْ فَسَخْتَ الْعَهْدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ ، حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ وَهُمْ فِي الْعِلْمِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ سَوَاءً ، فَلَا يَتَوَهَّمُوا أَنَّكَ نَقَضْتَ الْعَهْدَ بِنَصْبِ الْحَرْبِ مَعَهُمْ . اهـ . وَأَمَّا الَّذِينَ يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ بِالْفِعْلِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى نَبْذِ الْمُسْلِمِينَ عَهِدَهُمْ إِلَيْهِمْ ، بَلْ يُنَاجِزُونَ الْحَرْبَ عِنْدَ الْإِمْكَانِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ نَقَضَتْ
قُرَيْشٌ عَهْدَ
الْحُدَيْبِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِمُظَاهَرَةِ
بَكْرٍ عَلَى
خُزَاعَةَ الَّذِينَ كَانُوا فِي ذِمَّتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ .
وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا النَّبْذِ لِعَهْدِ مَنْ ذُكِرَ ، بَلِ الْعِلَّةُ لَهُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=18853الْإِسْلَامَ لَا يُبِيحُ لِأَهْلِهِ الْخِيَانَةَ مُطْلَقًا ، فَكَيْفَ تَقَعُ مِنْ أَكْمَلِ الْبَشَرِ الَّذِي كَانَ يُلَقِّبُهُ أَهْلُ وَطَنِهِ مُنْذُ تَمْيِيزِهِ بِالْأَمِينِ ، ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ لِيُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=58إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ بِنَقْضِ عُهُودِهِمْ مَعَ النَّاسِ ، وَلَا يُغَيِّرُ ذَلِكَ ، فَالْخِيَانَةُ مَبْغُوضَةٌ عِنْدَ اللَّهِ بِجَمِيعِ صُوَرِهَا وَمَظَاهِرِهَا ، فَلَا وَسِيلَةَ إِذًا لِاتِّقَاءِ ضَرَرِ خِيَانَةِ الْمُعَاهِدِينَ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُهَا مِنْهُمْ مَعَ عَدَمِ إِبَاحَةِ مُعَامَلَتِهِمْ بِمِثْلِهَا مَعَ بَقَاءِ الْعَهْدِ مِنْ جِهَتِنَا ، وَعَدَمِ جَوَازِ حُسْبَانِهِ كَمَا يَقُولُ الْأَقْوِيَاءُ مِنْ مُلُوكِ أُورُبَّةَ : " قُصَاصَةُ وَرَقٍ " - إِلَّا نَبْذُ عَهْدِهِمْ جَهْرًا ، وَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ الْوَسِيلَةُ مَانِعَةً مِنْ خِيَانَةِ الْعُقَلَاءِ مِنْهُمْ ، الَّذِينَ يَتَّقُونَ عَاقِبَةَ نَقْضِ الْعَهْدِ إِذَا كَانُوا ضُعَفَاءَ لَا يَتَجَرَّءُونَ عَلَى الْخِيَانَةِ إِلَّا إِذَا كَانُوا آمِنِينَ مِنْ مُعَامَلَةِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ مُعَامَلَةَ الْأَعْدَاءِ الْمُحَارِبِينَ وَمُنَاجِزَتِهِمْ إِيَّاهُمُ الْقِتَالَ ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=56وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ .
رَوَى
الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=17188مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ : ثَلَاثَةٌ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ فِيهِنَّ سَوَاءٌ -
nindex.php?page=treesubj&link=30945مَنْ عَاهَدْتَهُ فَوَفِّ بِعَهْدِهِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا ، فَإِنَّمَا الْعَهْدُ لِلَّهِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=27175_18043وَمَنْ كَانَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ رَحِمٌ فَصِلْهَا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا ،
nindex.php?page=treesubj&link=32455وَمَنِ ائْتَمَنَكَ عَلَى أَمَانَةٍ فَأَدِّهَا إِلَيْهِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا . وَرُوِيَ فِيهَا عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16027سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : كَانَ بَيْنَ
مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ
الرُّومِ عَهْدٌ ، وَكَانَ يَسِيرُ حَتَّى يَكُونَ قَرِيبًا مِنْ أَرْضِهِمْ ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ أَغَارَ عَلَيْهِمْ ، فَجَاءَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=81عَمْرُو بْنُ عَنْبَسَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ فَقَالَ : وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ
مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَشُدُّ عَقْدَهُ وَلَا يَحِلُّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمْرُهَا وَيَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى [ ص: 46 ] سَوَاءٍ قَالَ : فَرَجَعَ
مُعَاوِيَةُ بِالْجُيُوشِ . فَهَذَا صَحَابِيٌّ وَعَظَ قَائِدًا صَحَابِيًّا مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ فِي وَقْتِ عَهْدِ السَّلْمِ فَاتَّعَظَ وَرَجَعَ .
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي مَعْنَاهَا مِنْ مُرَاعَاةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي الْحَرْبِ مَا انْفَرَدَ بِهِ الْإِسْلَامُ دُونَ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ ، وَقَوَانِينِ الْمَدَنِيَّةِ اللَّاحِقَةِ . وَمَعَ هَذِهِ الْفَضَائِلِ وَالْمَزَايَا كُلِّهَا يَطْعَنُ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ مُكَابِرِي الْحَقِّ فِي هَذَا الدِّينِ ، وَفِي أَخْلَاقِ مَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الشَّرِيفَةَ وَقَالَ لَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=4وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( 68 : 4 ) .