الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( 5 ) عقائد علماء الإفرنج في هذا العهد :

                          ملخص القول في الدين عند الإفرنج كما يتراءى لنا : أن العوام لا يزالون يخضعون لدين الكنائس ، ونظم رجالها في الجملة ، ولعلهم يبلغون النصف في مجموع شعوبها . وإن الملاحدة المعطلين فيهم على كثرتهم هم الأقلون في النصف الآخر ، وسائر النصف يؤمنون بأن للعالم خالقا ، وأنه واحد عليم ، يعرف بأثره في نظام العالم الكبير ، وأما ذاته فهي غيب مطلق لا تتصور كنهها العقول . ضرب له الفيلسوف الألماني ( أينشتين ) الشهير مثلا غلاما مميزا دخل دارا من دور الكتب الكبرى ، فرأى في خزاناتها ألوفا من الكتب منضودة مرتبة من أدنى الحجرات إلى سقوفها - فهو يدرك أن في هذه الكتب علوما كثيرة مكتوبة بلغات متعددة ، وأن الذين وضعوها في مواضعها أولو فهم ، ونظام هندسي دقيق ، وأما ما دون فيها من العلوم والفنون فلا يصل عقله إلى أقل القليل منها .

                          وأما الإيمان ببقاء النفس بعد الموت ، وجزائها بعملها بقدر تأثير الحسن أو القبيح فيها فقد كان قليلا في هؤلاء الناس ، ولكنه كثر في هذا القرن بانتشار مذهب الروحيين الذين أدرك كثير منهم بعض الأرواح تتجلى لبعض المستعدين لإدراكها ( وهم قليلون ) وتخاطبهم وتملي عليهم كلاما لم يكونوا يعلمونه ، وتحرك أيديهم بكتابة أشياء ربما كانت بلغة غير لغتهم ، ويكثر عدد المصدقين بهذه التجليات الروحية سنة بعد سنة ، ولهم جرائد ومجلات ومدارس خاصة بهم ، ومنهم العلماء بكل علم من علوم العصر العالية من طبيعية وطبية ورياضية ، الذين لم يؤيدوا هذا المذهب إلا بعد تجارب دقيقة أمنوا أن يكون ما رأوه وسمعوه من جانب الأرواح خداعا .

                          ورؤية أرواح الموتى وغيرها من الأرواح العلوية والسفلية مما نقل عن جميع الأمم ولا سيما الصوفية ، ومجموع المنقول منها يدل دلالة عقلية على أن لها حقيقة ثابتة ، ولكن الصحيح منها قد اختلط بالتخيلات والأوهام وبالشعوذة وصناعة السحر ، فقلت ثقة العقلاء المستقلين بأخبارها ; لتعسر التمييز بينها ، وإنما تجدد في هذا العصر جعل استحضار الأرواح ومخاطبتها صناعة تعليمية تثبتها التجارب لكل من يطلب معرفتها ، ولكن بوساطة المستعدين لرؤيتها ، وقد كثر في منتحليها الدجالون الذين اتخذوها ذريعة للكسب ، فكان ما عرف من خداعهم أقوى صارف للعقلاء المستقلين عن تصديق غيرهم ، ومن الناس من يعتقد أن هذه الأرواح التي يستحضرونها من شياطين الجن لا من أرواح البشر . وهو حجة على الماديين بوجود عالم حي عاقل غير عالم المادة وسننها - نواميسها - أيضا .

                          [ ص: 309 ] ورجال الدين يكذبونهم غالبا ; لأن ما ينقلونه عن هذه الأرواح يخالف بعض تعاليم الدين ، وإن كان من جهة أخرى يؤيد ركنا من أركان العقيدة ، وهو بقاء النفس والحياة الأخروية بعد الحياة الدنيا . وقد بالغ بعض الباحثين من المسلمين بمصر في إثبات هذه المسألة حتى زعم زاعم منهم أنه لا يمكن ثبوت الدين إلا بثبوتها ، قلت له مرة : إن صح قولك فالدين لم يثبت في الزمن الماضي ! ! .

                          ومن الناس من يطعن في هذه الروايات عن الأرواح بالاختلاف والتعارض بين ما ينقلونه عنها ، وإنما يتجه هذا الطعن بأمرين : ( أحدهما ) أن تكون جميع أرواح الموتى تعلم الحقائق كما هي عليه وتكون معصومة من الكذب والخطأ فيما تخبر به الوسطاء الذين تتجلى لهم . ( ثانيهما ) أن يكون هؤلاء الوسطاء يدركون كل ما تلقيه إليهم الأرواح كما هو لا يفوتهم منه شيء ، ثم يؤدونه كما سمعوه لا يخطئون في شيء منه ، ولا يقوم دليل على إثبات هذا ولا ذاك ، بلى قرأنا مما نقلوه عن الأرواح أنها على درجات متفاوتة في عالمها ، وأن الدنيا منها لا تدرك ما تدركه العليا ، وأنها لا تعلم كل شيء مما تسأل عنه ، وأنها لا تستطيع أن تبلغ كل ما نعلم منه ، وأن منها ما لا يؤذن لها بتبليغه ، وجملة القول : أن هذه المسألة تفتقر إلى تمحيص وتحقيق ليس هذا الاستطراد في التفكير بمحل له .

                          وأما الوحي ، فمن المؤمنين بالله من هؤلاء الإفرنج وأمثالهم من يؤمن ومنهم من لا يؤمن بصحته ، ومنهم الذين لا يؤمنون بأن للبشر أرواحا مستقلة من غير عالم المادة ، ومنهم من يعتقد أن الوحي حالة من حالات النفس تستحوذ عليها فتفيض عليها بعض المعارف ، وتنطقها بما تكون متوجهة إليه في هذه الحالة من الحقائق ، ولكن صاحب هذه النفس لا يكون معصوما من الخطأ فيما ينبع في نفسه من الأخبار كلها ، ولا من التعاليم العملية ونفعها . وقد بينا حقيقة الوحي في الإسلام المزيل لشبهاتهم عليه من قبل ، وسنعود إليه في أول تفسير سورة يونس بما هو أوضح إن شاء الله تعالى .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية