الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 263 ] فصل

                          فيمن تؤخذ منهم الجزية

                          ومقدار ما يؤخذ

                          نص الآية الكريمة أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب ، وقد تقدم في تفسيرها آنفا أن المراد بأهل الكتاب الذي كان يتبادر إلى الأذهان بدلالة القرآن اليهود والنصارى ، ونقل الحافظ في الفتح الاتفاق على هذا ، أي: وإن كان اللفظ عاما ، وكان القرآن نفسه يدل في آيات أخرى على بعثة رسل كثيرين في الأمم منهم من كانوا أصحاب كتب . ولا فرق في أهل الكتاب بين العرب والعجم خلافا للحنفية ، وقد ثبت بالسنة القولية والعملية أخذ الجزية من المجوس ، واختلف في كونهم أهل كتاب أو شبهة كتاب ، وقد تقدم ذلك مجملا ، وسيعاد مفصلا . وجمهور الفقهاء على أن حكم جميع الوثنيين حكم مشركي العرب في أنهم لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف . وقال بعضهم : تقبل منهم الجزية ، فالأصناف أربعة : ( الأول ) مشركو العرب ، وهؤلاء لا تقبل منهم الجزية بالإجماع . ( الثاني ) اليهود والنصارى على اختلاف أجناسهم ومذاهبهم ، وهؤلاء تقبل منهم الجزية بنص القرآن . . وقيل : إلا العرب منهم . ( الثالث ) المجوس والصابئون ، وقد قبل الصحابة ومن بعدهم من أمراء المسلمين الجزية منهم ، وسنذكر ما قال الفقهاء في ذلك . ( الرابع ) ما عدا هذه الأصناف الثلاثة من الوثنيين وغيرهم ، ولا نص عليهم في الكتاب ، ولا في السنة ، وعندنا أن أمرهم اجتهادي يحكم فيهم أولو الأمر من المسلمين بما يرون فيه المصلحة ككل مسكوت عنه . وجمهور الفقهاء يدخلونهم في عموم المشركين ولا سيما الآية التي يسمونها آية السيف . والحق ما قررناه في تفسيرها من أن المراد بالمشركين فيها مشركو العرب ، فهو عام مراد به الخصوص من أول وهلة كأهل الكتاب ، ويؤيد هذا ما تقدم من الآيات في تعليل قتالهم وأدلته ، وكذا الأحاديث الناطقة بوجوب جعل جزيرة العرب خاصة بالمسلمين ، وما ذكرناه من حكمة ذلك ، وقد لاحظ هذه الحكمة الإمام أبو حنيفة وصاحبه الإمام أبو يوسف رحمهما الله ، ولكنهما جعلا غرض الشارع أن يكون جنس العرب كله مسلما سواء كان في جزيرته أو غيرها ، فلا تقبل من أحد منهم الجزية عندهما ، وفي هذا من مخالفة السنة ما يأتي . وإنما أصابا في قولهما : إن الجزية تقبل من جميع العجم مهما تكن مللهم وأديانهم ، وعلى هذا المذهب جرى عمل الدول الإسلامية في كل فتوحاتهم لبلاد الملل الوثنية كالهند وغيرها ، فلم يحاولوا استئصال أهل ملة منهم . وأما كونهم مشركين بالفعل فمثلهم فيه أهل الكتاب ، كما شهد عليهم القرآن ، ولكن الشرط طرأ عليهم ، وليس من كتابهم ، ولوثني الهند والصين وغيرهم كتب قديمة مشتملة على التوحيد كما بيناه في موضع آخر .

                          وإننا نفصل أحكام الجزية بإيراد جملة ما أورده صاحب منتقى الأخبار من الأحاديث [ ص: 264 ] المرفوعة والموقوفة ، ونقفي عليه ببيان مذاهب أئمة علماء الأمصار في ذلك ، وإن كان فيه تكرار . فهذا آخر إسهاب في تفسيرنا لأحكام القتال .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية