ثم قال تعالى بعد هذه القاعدة العامة التي تقرها ولا تنكرها علوم الحرب وفنونها في هذا العصر : تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة   وهو إنكار على عمل وقع من الجمهور على خلاف تلك القاعدة التي تقتضيها الحكمة والرحمة معا بقصد دنيوي وهو فداء الأسرى بالمال  ، ليس من شأن الأنبياء ، ولا مما ينبغي لهم مخالفتها ولو بإقرار مثل ذلك العمل ، وهو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل من أسرى بدر  الفداء برأي أكثر المؤمنين بعد استشارتهم ، فتوجه العتاب إليهم بعد بيان سنة النبيين في المسألة الدال بالإيماء على شمول الإنكار والعتاب له صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ، وسنذكر حكمة ذلك وحكمة هذا الاجتهاد منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد بيان ما ورد في الواقعة . 
والمعنى : تريدون أيها المؤمنون عرض الدنيا الفاني الزائل وهو المال الذي تأخذونه من الأسرى فداء لهم - والعرض في الأصل ما يعرض ولا يدوم ولا يثبت ، واستعاره علماء المعقول لما يقوم بغيره لا بنفسه كالصفات وهو يقابل الجوهر - وهو عندهم ما يقوم بنفسه كالأجسام . والله يريد لكم ثواب الآخرة الباقي بما يشرعه لكم من الأحكام الموصلة إليه ما عملتم بها ، ومنه الاستعداد للقتال بقدر الاستطاعة بقصد الإثخان في الأرض ، والسيادة فيها لإعلاء كلمة الحق وإقامة العدل ، فهو كقوله في رخصة ترك الصيام في السفر والمرض : يريد الله بكم اليسر    ( 2 : 185 ) وليس المراد به إرادة الخلق والتكوين فإن هذا لا يظهر هاهنا ولا هناك ، ولذلك لجأ من لم يفطن من المفسرين لما ذكرنا في تفسير الإرادة إلى قول   [ ص: 75 ] المعتزلة  فقالوا : أي يحبه ويرضاه لكم ، بإعزاز الحق والإيمان ، وإزالة قوة الشرك والطغيان ، والله عزيز حكيم  فيحب للمؤمنين أن يكونوا أعزة غالبين ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين    ( 63 : 8 ) كما يحب لهم أن يكونوا حكماء ربانيين ، يضعون كل شيء في موضعه . وإنما يكون هذا بتقديم الإثخان في الأرض والسيادة فيها على المنافع العرضية بمثل فداء أسرى المشركين وهم في عنفوان قوتهم وكثرتهم ، وهذه القاعدة تعدها دول المدنية العسكرية من أسس السياسة الاستعمارية ، فإذا رأوا من البلاد التي يحتلونها أدنى بادرة من أعمال المقاومة بالقوة ينكلون بأهلها أشد تنكيل فيخربون البيوت ويقتلون الأبرياء مع المقاومين ، بل لا يتعففون عن قتل النساء والأطفال بما يمطرون البلاد من نيران المدافع وقذائف الطيارات ، والإسلام لا يبيح شيئا من هذه القسوة ، فإنه دين العدل والرحمة . 
لأصحاب التفسير المأثور في هذه النازلة عدة روايات عن علماء الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ نذكر أهمها وأكثرها فائدة : روى  ابن أبي شيبة   والترمذي  وحسنه وابن المنذر   وابن أبي حاتم   والطبراني  والحاكم  وصححه وابن مردويه  والبيهقي  في الدلائل عن  ابن مسعود  ـ رضي الله عنه ـ قال : لما كان يوم بدر  جيء بالأسارى  فقال أبو بكر  ـ رضي الله عنه ـ : يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم ، وقال عمر  ـ رضي الله عنه ـ : يا رسول الله كذبوك وأخرجوك وقاتلوك قدمهم فاضرب أعناقهم ، وقال  عبد الله بن رواحة  ـ رضي الله عنه ـ : انظروا واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا . فقال العباس  ـ رضي الله عنه ـ وهو يسمع ما يقول : قطعت رحمك . فدخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يرد عليهم شيئا . فقال أناس : يأخذ بقول أبي بكر  ـ رضي الله عنه ـ وقال أناس : يأخذ برأي عمر  ـ رضي الله عنه ـ فخرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة . مثلك يا أبا بكر  مثل إبراهيم  عليه السلام قال : فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم    ( 14 : 36 ) ومثلك يا أبا بكر  مثل عيسى  عليه السلام : قال : إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم    ( 5 : 118 ) ومثلك يا عمر  كمثل نوح  إذ قال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا    ( 71 : 26 ) ومثلك يا عمر  كمثل موسى  عليه السلام إذ قال : ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم    ( 10 : 88 ) - أنتم عالة فلا ينفلتن أحد منكم إلا بفداء أو ضرب عنق " فقال عبد الله  ـ رضي الله عنه ـ : يا رسول الله إلا  سهيل بن بيضاء  فإني سمعته يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة مني في ذلك اليوم حتى قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إلا  سهيل بن بيضاء    . فأنزل الله تعالى : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض  إلى آخر الآيتين   . 
 [ ص: 76 ] وروى أحمد  ومسلم  من حديث  ابن عباس  ـ رضي الله عنه ـ والتفصيل لأحمد  قال : لما أسروا الأسارى - يعني يوم بدر    - قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي بكر  وعمر    : " ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ " فقال أبو بكر    : يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون قوة لنا على الكفار ، وعسى الله أن يهديهم للإسلام . فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ما ترى يا ابن الخطاب  ؟ " فقال : لا والله ، لا أرى الذي رأى أبو بكر  ، ولكنني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم ، فتمكن عليا  من عقيل    ( أي أخيه ) فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان - نسيبا لعمر    - فأضرب عنقه ، ومكن فلانا من فلان قرابته ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها . فهوي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما قال أبو بكر  ولم يهو ما قلت . فلما كان الغد جئت فإذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر  قاعدين يبكيان . قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة " - شجرة قريبة منه - وأنزل الله عز وجل : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض    . 
وفي هذا الحديث أن الذين طلبوا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ اختيار الفداء كثيرون ، وإنما ذكر في أكثر الروايات أبو بكر  ـ رضي الله عنه ـ لأنه أول من أشار بذلك ، ولأنه أول من استشارهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما أنه أكبرهم مقاما . ويوضحه ما رواه ابن المنذر  عن قتادة  ـ رضي الله عنه ـ قال في تفسير الآية : أراد أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم  ـ يوم بدر  الفداء ففادوهم بأربعة آلاف أربعة آلاف . ومثله ما رواه الترمذي   والنسائي  وابن حبان في صحيحه والحاكم  بإسناد صحيح ، كما قال الحافظ ابن حجر  في الفتح من حديث علي كرم الله وجهه قال : جاء جبريل  إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم بدر  فقال : " خير أصحابك في الأسرى إن شاءوا القتل وإن شاءوا الفداء على أن يقتل منهم عاما مقبلا - وفي الترمذي  قابل - مثلهم " قالوا : الفداء ويقتل منا . وقال الترمذي  حديث حسن صحيح من حديث  سفيان الثوري  لا تعرفه إلا من حديث  ابن أبي زائدة    . ورواه أبو أسامة  عن هشام  عن  ابن سيرين  عن عبيدة  عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نحوه مرسلا . 
( أقول ) :  ابن أبي زائدة هو يحيى بن زكريا  ، روى عنه الجماعة ووثقه أساطين الجرح والتعديل ، والمراد بقوله : مثلهم . أنهم إذا أخذوا الفداء يكون عقابهم أن يقتل منهم مثل عدد أولئك الأسرى وهو سبعون على المشهور في الروايات الصحيحة ( منها ) ما رواه البخاري  في حديث  البراء بن عازب  ـ رضي الله عنه ـ الثاني من أحاديث ( باب غزوة أحد    ) . 
 [ ص: 77 ] فأصيب منا سبعون قتيلا . قال الحافظ في شرحه بعد أن أورد خلاف الرواة في عدد هؤلاء القتلى [ ص271 ج 8 ] ومنه أن الفتح اليعمري  سرد أسماءهم فبلغوا : 96 - من المهاجرين  أحد عشر وسائرهم من الأنصار  ، وذكر أنهم بلغوا في بعض الروايات مائة . ثم قال الحافظ : قال اليعمري    : وقد ورد في تفسير قوله تعالى : أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها    ( 3 : 165 ) أنها نزلت تسلية للمؤمنين عما أصيب منهم يوم أحد  ، فإنهم أصابوا من المشركين يوم بدر  سبعين قتيلا وسبعين أسيرا في عدد من قتل . قال اليعمري    : إن ثبتت فهذه الزيادة بقوله : أولما أصابتكم  للأنصار  خاصة ، ويؤيده قول أنس    : أصيب منا يوم أحد  سبعون . وهو في الصحيح بمعناه . انتهى هذا الحديث ، وأقول : إن ما ذكره لتصحيح رواية كون السبعين من الأنصار  من جعل الخطاب لهم في قوله تعالى : أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا    ( 3 : 165 ) الآية . خلاف المتبادر الذي يقتضيه جعل الخطاب لجميع المؤمنين فيما قبلها وبعدها ، وقد قال الحافظ نفسه في شرح حديث  البراء بن عازب  في أبواب غزوة بدر    ( 239 ج 7 ) واتفق أهل العلم بالتفسير على أن المخاطبين بذلك أهل أحد  ، وأن المراد بـ أصبتم مثليها  يوم بدر  وعلى أن عدة من استشهد بأحد  سبعون نفسا إلخ . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					