[ ص: 125 ] فصل : [  وجوه الاجتهاد      ] :  
وأما الفصل الثاني في وجوه الاجتهاد فهو لم يرد في الكتاب والسنة بيان حكمه ، فقد قيل إن الذي تضمنه كتاب الله تعالى من الأحكام مشتمل على نحو خمسمائة آية ، والذي تضمنته السنة نحو خمسمائة حديث ، ونوازل الأحكام أكثر من أن تحصى ولا تقف على هذا العدد ، ولا يجوز أن تكون الأمة مضاعة لا ترجع إلى أصل من كتاب ولا سنة توصلهم إلى العلم بأحكام النوازل ، وقد قال الله تعالى :  اليوم أكملت لكم دينكم      [ المائدة : 4 ] ، وروى  المطلب بن حنطب   أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "  ما تركت شيئا مما أمركم به إلا وقد أمرتكم به ولا تركت شيئا مما أنهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه     " .  
فدلت الآية في إكمال الدين ودل الخبر في استيفاء الأوامر والنواهي ، على أن للأحكام المسكوت عنها أصولا في الكتاب والسنة يتوصل بها إلى معرفة ما أغفل بيانه فيهما وهو الاجتهاد فيما تضمنها من الأمارات الدالة ، واستخراج ما تضمنها من المعاني المستنبطة ليكون الدين قد كمل والأحكام قد وضحت ، فإن النصوص على الحوادث معدول عن استيعابه لأمرين :  
أحدهما : أنه شاق في الإحاطة بجميعه .  
والثاني : ليتفاضل العلماء في استنباطه .  
فصح بهذين المعنيين أن يكون الاجتهاد في الشرع أصلا يستخرج به حكم ما لم يرد فيه نص ولا انعقد عليه إجماع .  
وإذ قد مضى الاجتهاد في أعصار الأنبياء وجب أن يوضح  اجتهاد العلماء فيما بعدهم   ، وهو ينقسم على ثمانية أقسام :  
أحدها : ما كان  حكم الاجتهاد مستخرجا من معنى النص   كاستخراج علة الربا من البر فهذا صحيح غير مدفوع عنه عند جميع القائلين بالقياس .  
والقسم الثاني :  ما كان مستخرجا من شبه النص   كالعبد في ثبوت تملكه لتردد شبهه بالحر في أنه يملك لأنه مكلف وشبهة البهيمة في أنه لا يملك ، لأنه مملوك ، وهذا صحيح وليس بمدفوع عنه عند من قال بالقياس ، ومن لم يقل ، غير أن من لم يقل بالقياس جعله داخلا في عموم أحد الشبهين ، ومن قال بالقياس جعله ملحقا بأحد الشبهين .  
القسم الثالث :  ما كان مستخرجا من عموم النص   كالذي بيده عقدة النكاح في قوله  إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح      [ البقرة : 237 ] . يعم الأب والزوج ، والمراد به أحدهما ، وهذا صحيح يوصل إليه بالترجيح .  
 [ ص: 126 ] والقسم الرابع :  ما كان مستخرجا من إجمال النص   كقوله في متعة الطلاق :  ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره      [ البقرة : 236 ] . فصح الاجتهاد في إجمال قدر المتعة باعتبار حال الزوجين .  
والقسم الخامس :  ما كان مستخرجا من أحوال النص   كقوله في متعة الحج :  فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم      [ البقرة : 196 ] . فأطلق صيام الثلاثة في الحج ، فاحتمل قبل  عرفة   وبعدها وأطلق صيام السبعة إذا رجع فاحتمل إذا رجع في طريقه وإذا رجع إلى بلده فصح الاجتهاد في تغليب إحدى الحالتين .  
القسم السادس :  ما كان مستخرجا من دلائل النص      : كقوله في نفقة الزوجات :  لينفق ذو سعة من سعته      [ الطلاق : 7 ] . الآية فاستدللنا على تقدير نفقة الموسر بمدين بأنه أكثر ما جاءت به السنة في فدية الأذى لكل مسكين مدان . واستدللنا على تقدير نفقة المعسر بمد بأقل ما جاءت به السنة في كفارة الوطء في شهر رمضان لكل مسكين مدا .  
والقسم السابع :  ما كان مستخرجا من أمارات النص   كاستخراج دلائل القبلة فيمن خفيت عليه من قوله :  وعلامات وبالنجم هم يهتدون      [ النحل : 16 ] . فصح الاجتهاد في القبلة بالأمارات الدالة عليها من هبوب الرياح ومطالع النجوم .  
والقسم الثامن :  ما كان مستخرجا من غير نص ولا أصل   فقد اختلف في صحة الاجتهاد فيه بغلبة الظن على وجهين :  
أحدهما : لا يصح الاجتهاد بغلبة الظن حتى يقترن بأصل : لأنه لا يجوز أن يرجع في الشرع إلى غير أصل ، وهذا هو الظاهر من مذهب  الشافعي      .  
ولذلك أنكر القول بالاستحسان : لأنه تغليب ظن بغير أصل .  
والوجه الثاني : يصح الاجتهاد به : لأن الاجتهاد في الشرع أصل فجاز أن يستغني عن أصل ، وقد اجتهد العلماء في التعزير على ما دون الحدود بآرائهم في أصله من ضرب وحبس ، وفي تقديره بعشر جلدات في حال ، وبعشرين في أخرى ، وبثلاثين في أخرى ، وليس لهم في هذه المقادير أصل مشروع .  
والفرق بين الاجتهاد بغلبة الظن وبين الاستحسان : أن الاستحسان يترك به القياس والاجتهاد بغلبة الظن يستعمل مع عدم القياس .  
				
						
						
