فصل : [ في  حكم الاجتهاد      ] :  
وأما الفصل الرابع في حكم الاجتهاد فليس يخلو حال حكم المجتهد فيه من أن تتفق عليه أقاويل المجتهدين أو تختلف .  
فإن اتفقت عليه أقاويلهم صار إجماعا تعين فيه الحق وسقط فيه الاجتهاد من بعده كسقوط الاجتهاد مع نصوص الكتاب والسنة لأن الإجماع حجة قاطعة بعد الكتاب أو السنة .  
وإن اختلفت فيه أقاويل المجتهدين فهو على ضربين :  
 [ ص: 128 ] أحدهما : أن يكون الاختلاف في أصول التوحيد وصفات الذات ، فالحق فيها واحد وهو الذي كلف العباد طلبه ، وما عداه باطل فمن أصابه فقد أصاب عند الله وأصاب في الحق ومن أخطأه فقد أخطأ عند الله وأخطأ في الحق . وهذا قول جمهور الفقهاء والمتكلمين .  
وشذ عنهم  عبيد الله بن الحسن العنبري   فجعل كل مجتهد مصيبا في الأصول والفروع .  
والجمع بينهما خطأ فاحش ، لأن أصول التوحيد وصفات الذات لا تختلف فلم يصح تجويز الاختلاف فيها ، وأحكام الشرع قد تختلف بحسب المصالح في الأعيان والأزمان فجاز أن يكون الخلاف مسوغا فيها .  
والضرب الثاني : من اختلاف المجتهدين : أن يكون في الأحكام الشرعية من العبادات والمعاملات كاختلاف الصحابة في أحكام الصلاة والزكاة والصيام وفي مقاسمة الإخوة للجد وفي توريث الجدة وابنها حي وفيمن قال لامرأته : أنت علي حرام وما أشبه ذلك .  
فقد اختلف الفقهاء والمتكلمون في هذا الاختلاف :  
فذهب أكثر المتكلمين إلى أن الحق في جميعها ، وأن كل مجتهد فيها مصيب عند الله ومصيب في الحكم : لأن جواز اختلاف الجميع دليل على صحة الجميع .  
وذهب  الشافعي   وأبو حنيفة   ومالك   وأكثر الفقهاء إلى أن الحق في أحدها وإن لم يتعين لنا فهو عند الله متعين : لاستحالة أن يكون الشيء الواحد في الزمان الواحد في الشخص الواحد حلالا وحراما : لأن ما حل لشخص في حال لم يكن حراما عليه في تلك الحالة لتنافيه وتناقضه ، ولأن المختلفين في اجتهادهم في القبلة إلى أربع جهات لا يدل على أن القبلة في الجهات الأربع .  
وإذا ثبت أن الحق في أحدها وإن لم يتعين فقد اختلف الفقهاء : هل كل مجتهد فيها مصيب أم لا .  
فمذهب  الشافعي   وما ظهر منه في أكثر كتبه أن المصيب منها واحد ، وإن لم يتعين وإن جميعهم مخطئ إلا ذلك الواحد ، فمن أصاب الحق فقد أصاب عند الله وأصاب في الحكم ، ومن أخطأ الحق فقد أخطأ عند الله ، وأخطأ في الحكم .  
وهذا مذهب  مالك      : لأن الحق لما كان في واحد لم يكن المصيب إلا واحدا .  
وقال  أبو يوسف   وطائفة من  أهل  العراق       : كل مجتهد مصيب وإن كان الحق في      [ ص: 129 ] واحد فمن أصابه فقد أصاب عند الله وأصاب في الحكم . ومن أخطأه فقد أخطأ عند الله وأصاب في الحكم .  
وقد حكى هذا القول عن  الشافعي   بعض أصحابه ، لأن له في وجوب القضاء على من تيقن الخطأ في القبلة قولين فمنهم من أثبته وخرجه قولا ثانيا ، ومنهم من أنكره . وقيل : إن مذهب  أبي حنيفة   في هذا مختلف فيجعل في بعض المسائل كل مجتهد مصيبا ، وإن كان الحق في واحد كقول  أبي يوسف   ، ويجعل في بعض المسائل كل مجتهد مخطئا إلا واحدا ، لأن الحق واحد كقولنا .  
ولو كان كل مجتهد مصيبا ما أخطأ مجتهد ، وقد نسب الله تعالى نبيه  داود   إلى الخطأ  وسليمان   إلى الإصابة بقوله تعالى :  ففهمناها سليمان   وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "  إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر     " فنسبه إلى الخطأ وإن جعل له أجرا .  
فإن قيل : فلو اختلفا في الإصابة لما شورك بينهما في الأجر .  
قيل : ولو اتفقا في الإصابة لما فوضل بينهما في الأجر .  
وقد خطأ الصحابة بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه :  فقال  ابن عباس      : " ألا لا يتقي الله  زيد بن ثابت   يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا " وقال في العول " من شاء باهلته عند  الحجر الأسود   ، والذي أحصى رمل عالج عدا ما جعل الله في المال نصفين وثلثا ، هذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين الثلث "  وقال  علي   لعمر   في المجهضة حين قال له  عثمان   وعبد الرحمن      : لا شيء عليك إنما أنت معلم فقال له  علي      : إن كانا ما اجتهدا فقد غشا وإن كانا قد اجتهدا فقد أخطأ فعليك الدية  فلم ينكروا خطأ المجتهد .  
فإن قيل : لما استجازوا أن يولوا من خالفهم في الاجتهاد دل على أن كل مجتهد مصيب ، ولو كان مخطئا لما استجازوا تولية مخالف ، قيل قد أنكر  علي   على  شريح   حين خالفه في ابني عم أحدهما أخ لأم ، وقال :  علي   بالعبد الأبطر وعزله عن القضاء .  
على أن نفوذ الاجتهاد عين الحكم ، وقد يجوز أن يتفقا عليه وقت الحكم .  
ولأن تصويب كل المجتهدين يؤدي إلى تصويب من نفى تصويب المجتهدين فصار ما ذهب إليه من التصويب راجعا عليه في إبطال التصويب . فإذا صح أن جميعهم مخطئ في الاجتهاد إلا واحدا هو المصيب منهم وإن كان غير متعين فالمصيب منهم مأجور على الاجتهاد وعلى الصواب ، وأما المخطئ فغير مأجور على الخطأ .  
واختلف في  أجره على الاجتهاد      :  
فمذهب  الشافعي   أنه مأجور عليه وإن أخطأ فيه لقصد الصواب وإن لم يظفر به .  
وقال  الأصم   وابن علية   هو مأثوم على الاجتهاد لخطئه فيه .  
 [ ص: 130 ] وقالت طائفة من  أهل  العراق       : ليس بمأجور عليه ولا مأثوم فيه .  
ودليلنا قول النبي عليه السلام : "  إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر     " .  
وكان شيخنا  أبو القاسم الصيمري   لأجل هذا يقول : إن كل مجتهد مصيب في أنه أدى ما كلف من الاجتهاد ، مخطئ للحكم الذي أراده الله تعالى إلا واحدا . وليس هذا بصحيح لأنه كلف الاجتهاد المؤدي إلى الصواب ولم يكلف الاجتهاد المؤدي إلى الخطأ ، وإنما استحق الأجر بنيته في طلب الحق وبما تكلفه من الاجتهاد الذي اعتقد أنه حق وإن لم يكن بحق .  
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "  نية المرء من خير من عمله     " .  
وفيه ثلاثة تأويلات :  
أحدها : أن نيته في الاجتهاد خير من خطئه في الاجتهاد .  
والثاني : يعني أن نيته خير من خيرات عمله .  
والثالث : أن النية أوسع من العمل : لأنها تسبق الأقوال والأفعال فيعجل الثواب عليها .  
				
						
						
