الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وفي هذا دلالة أن الحق يتحول على المحال عليه ويبرأ منه المحيل فلا يرجع عليه أبدا كان المحال عليه غنيا أو فقيرا أفلس أو مات [ ص: 421 ] معدما " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال ، إذا قبل المحتال الحوالة فقد انتقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه إجماعا فإن أفلس المحال عليه أو جحد لم يكن للمحتال أن يرجع على المحيل بشيء ، وقال أبو حنيفة رحمه الله : للمحتال أن يرجع على المحيل إذا مات المحال عليه مفلسا أو جحد الحق حيا ، وقال أبو يوسف ومحمد : يرجع عليه في هذين الموضعين وإذا أفلس حيا واستدلوا بحديث شعبة عن خليد بن جعفر عن أبي إياس معاوية بن قرة عن عثمان رضي الله عنه قال في الحوالة أو الكفالة يرجع صاحبها لا توى على مال مسلم ولأن الحقوق المستقرة في الذمم قد تنتقل تارة إلى ذمة أخرى بالحوالة وتارة إلى عين بالمعاوضة فلما كان تلف العين قبل قبضها يوجب عود الحق إلى الذمة الأولى وجب أن يكون تلف الذمة قبل قبض الحق منها يوجب عود الحق إلى الذمة الأولى .

                                                                                                                                            وتحريره قياسا أنه حق انتقل من الذمة إلى جهة فات استيفاؤه منها فوجب أن يعود إلى الذمة التي كان ثابتا فيها كالأعيان التالفة قبل قبضها .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن خراب الذمة لا يخلو أن يجري مجرى العيب أو الاستحقاق ، فإن جرى مجرى الاستحقاق فقد عاد الحق إلى الذمة الأولى وإن جرى مجرى العيب كان مخيرا في الرجوع إلى الذمة الأولى .

                                                                                                                                            قالوا ولأنه لما كان خراب الذمة بالفلس يوجب عندكم عود الحق إلى العين المبيعة كان ما يوجب عوده إلى الذمة الأولى أولى والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قوله صلى الله عليه وسلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع فكان الدليل فيه من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما وهو دليل الشافعي رضي الله عنه أنه لو كان له الرجوع لما كان لاشتراط الملاءة فائدة : لأنه إن لم يصل إلى حقه رجع فلما شرط الملاءة علم أن الحق قد انتقل بها انتقالا لا رجوع له به فاشترط الملاءة حراسة لحقه .

                                                                                                                                            والدليل الثاني قوله : فإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع فأوجب عموم الظاهر اتباع المحال عليه أبدا ، أفلس أو لم يفلس ، وروي أنه كان لحزن جد سعيد بن المسيب على علي بن أبي طالب رضي الله عنه مال فأحاله به على إنسان فمات المحال عليه فرجع حزن إلى علي ، وقال : قد مات من أحلتني عليه ، فقال : قد اخترت علينا غيرنا أبعدك الله ، ولم يعطه شيئا ، فلو كان له الرجوع لما استجاز علي أن يمنعه منه وهو فعل منتشر في الصحابة لا نعرف له مخالفا .

                                                                                                                                            [ ص: 422 ] فإن عورض بحديث عثمان كان الجواب عنه ما نذكره ، وأما المعنى فهو سقوط المطالبة عمن عليه الحق من غير بقاء علقة يمنع من عوده كما لو سقط بقبض أو إبراء ، ولأن تعذر استيفاء الحق من المحال عليه لا يوجب فسخ الحوالة كما لو أفلس حيا ، ولأن من لزمه حق في ذمته فموته لا يوجب فسخ العقد الذي ثبت الحق لأجله كالمشتري بثمن مؤجل إذا مات لم يوجب موته فسخ الشراء ولأن انتقال الحق من محل إلى مثله لا يثبت إلا بالمراضاة قياسا على الإبدال في الأعيان ولأن الحوالة بالحق تجري مجرى القبض بدليلين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه صرف يجوز الافتراق فيه ، فلولا أنه قبض لبطل بالافتراق .

                                                                                                                                            والثاني : أن المحيل لو مات جاز لورثته الاقتسام بالتركة لبقاء حقه فيها فدل هذا على أن الحق مقبوض ، والحقوق المقبوضة إذا تلفت الرجوع بها كالأعيان المقبوضة ولأن الحوالة اسم مشتق من معناه ، وهو تحول الحق به كما أن الضمان مشتق من انضمام ذمة إلى ذمة فلم يجز أن يعود الحق بعد تحوله إلا بمثل ما انتقل به .

                                                                                                                                            فأما الجواب عما استدلوا به من حديث عثمان فمن وجوه :

                                                                                                                                            أحدها : أنها رواية خليد وهو مجهول .

                                                                                                                                            والثاني : أنه منقطع لأن معاوية بن قرة لم يلق عثمان والحديث المنقطع غير لازم .

                                                                                                                                            والثالث : أنه قال في الحوالة أو الكفالة فكان شكا يمنع من صحة الاستدلال لأن في الكفالة يرجع وفي الحوالة لا يرجع ، والشك يمنع من تعيينه في الحوالة .

                                                                                                                                            والرابع : أنه مستعمل لأنه قال لا توى على مال مسلم ، فيحمل أنه لا توى على مال المحتال ليس أحد الاستعمالين أولى .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على الأعيان التالفة فهو أن الحوالة قبض للحق بدليل ما مضى وما تلف بعد قبضه لم يستحق الرجوع به كالأعيان التالفة ، وأما الجواب عما قالوا إنه لا يخلو أن يجري مجرى العيب أو الاستحقاق فهو أنه يجري مجرى العيب والعيوب الحادثة بعد القبض لا تستحق الرجوع بها كالأعيان .

                                                                                                                                            وأما الجواب عما ألزموه على مذهبنا من الرجوع بعين المبيع عند فلس المشتري ، فهو أننا جميعا قد اتفقنا على الفرق بينهما لأنهم أوجبوا الرجوع في الحوالة دون المبيع ونحن نوجب الرجوع في المبيع دون الحوالة فهذا فرق من حيث الإجماع ، ثم الفرق من حيث المعنى أن العلق في الحوالة منقطعة فلم يجز أن يعود الحق فيها والعلق في المبيع باقية لبقاء عينه فجاز أن يعود الحق إلى المبيع بالفلس الحادث .

                                                                                                                                            [ ص: 423 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية