الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإذا كان واجبا أن يحجر على من قارب البلوغ وقد عقل نظرا له وإبقاء لماله ، فكان بعد البلوغ أشد تضييعا لماله وأكثر إتلافا له لا يجب الحجر عليه ، والمعنى الذي أمر بالحجر عليه به فيه قائم " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال : السفيه المبذر لماله يجب الحجر عليه وإن كان بالغا .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة وزفر : لا يجوز أن يبتدئ الحجر على بالغ عاقل وإن كان سفيها مبذرا ، استدلالا بأن الله عز وجل أمر بالإنفاق ونهى عن الإمساك ، فقال تعالى : وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت [ المنافقون : 10 ] ، وقال : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون [ آل عمران : 92 ] ، فلم يجز أن يكون فعل ما ندب إليه يوجب الحجر عليه ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس لك [ ص: 355 ] من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت فكان ذلك حثا منه على الإنفاق للمال وترك إمساكه .

                                                                                                                                            وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا حجر على حر فهذا نص ، ولأنه حر مكلف فلم يجز أن يحجر عليه كغير المبذر : ولأن من حجر عليه في عقوده حجر عليه في إقراره كالمجنون ، ومن لم يحجر عليه في إقراره لم يحجر عليه في عقوده كالرشيد .

                                                                                                                                            فلما صح إقراره على نفسه صح في ماله وعقوده .

                                                                                                                                            وتحريره قياسا أن من قبل إقراره على نفسه قبل إقراره في ماله كالرشيد .

                                                                                                                                            ولأن تصرف الإنسان في مال نفسه أقوى من تصرف غيره في ماله ، فلما لم يصح منه إبطال عقوده المستقبلة فأولى أن لا يصح في غيره أن يبطل عقوده المستقبلة .

                                                                                                                                            ودليلنا قوله تعالى : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها [ النساء : 5 ] الآية ، والمراد بالسفهاء البالغون العقلاء ، لأن السفه صفة قيام لا تتوجه إلا على مكلف ، فدلت هذه الآية على استحقاق الحجر بالسفه من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : قوله تعالى : التي جعل الله لكم قياما [ النساء : 5 ] أن جعل الله لكم القيام عليها .

                                                                                                                                            والثاني : قوله تعالى : وارزقوهم فيها واكسوهم [ النساء : 5 ] ولا يجوز أن يتولى ذلك الأولى .

                                                                                                                                            وقوله تعالى : أموالكم يعني أموالهم ، وإنما أضاف ذلك إلى الأولياء لتصرفهم فيه ، ألا ترى أنه أمر بالإنفاق عليهم منها ولا يجب الإنفاق من غير أموالهم ، وقد قال سبحانه : فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل [ البقرة : 282 ] .

                                                                                                                                            فأثبت الولاية على السفيه وفرق بينه وبين المجنون والصغير .

                                                                                                                                            وروى عطاء ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، أن رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبتاع وكان في عقدته ضعف فأتى أهله نبي الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا نبي الله احجر على فلان فإنه يبتاع وفي [ ص: 356 ] عقدته ضعف فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن البيع فقال : يا رسول الله لا أصبر عنه ، فقال : إن كنت غير تارك فقل : لا خلابة ، فدل هذا الحديث على استحقاق الحجر على البالغ من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه حجر عليه حجر مثله بأن أثبت له الخيار في عقوده ولم يجعلها منبرمة .

                                                                                                                                            والثاني : سؤالهم الحجر عليه وإمساك النبي صلى الله عليه وسلم عن الإنكار .

                                                                                                                                            وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : خذوا على أيدي سفهائكم ولا يمكن الأخذ على أيديهم إلا بالحجر عليهم .

                                                                                                                                            وروي أنه صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ لأجل غرمائه فكان الحجر على السفيه لحق نفسه أولى ، ولأنه إجماع الصحابة ، وهو ما روي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه مر بأرض سبخة فقال : لمن هذه ؟ فقالوا : كانت لفلان واشتراها عبد الله بن جعفر بستين ألف درهم ، فقال : ما يسرني أن تكون لي بنعلين ، ثم رأى علي بن أبي طالب فقال : لم لا تقبض على يد ابن أخيك وتحجر عليه ، فعلم عبد الله بن جعفر بذلك فلقي الزبير بن العوام وذكر له الحال ، فقال : شاركني فيها فشاركه ، ثم أقبل علي إلى عثمان رضي الله عنهما يسأله الحجر على عبد الله ، فقال عثمان : كيف أحجر على من شريكه الزبير ، وكان معروفا بالإمساك والاستصلاح فصارت شركته شبهة تنفي استحقاق الحجر ، فكان ذلك منهم ومن باقي الصحابة في إمساكهم إجماعا منعقدا على استحقاق الحجر على البالغ ، وروي عن عبد الله بن الزبير أنه لما بلغه عن عائشة رضي الله عنها أنها تبذر مالها في العطايا والصلات والصدقات فقال : لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها ، فبلغ ذلك عائشة فحلفت أن لا تكلمه حتى ركب إليها فاعتذر لها وكفرت عن يمينها وكلمته ، فدل على أن الحجر على البالغ مشهور فيهم ، وإن كان ابن الزبير وهم في موجبه ؛ لأن من صرف ماله في القرب لم يستحق به الحجر .

                                                                                                                                            وقد روي أن مروان بن الحكم راسل عائشة رضي الله عنها بمثل ذلك ، ولأن عدم التدبير ووجود التبذير يوجب ثبوت الحجر كالصغير ، ولأن ما يستدام به الحجر لاستدامته وجب إذا طرأ أن يبتدئ الحجر به كالجنون .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قولهم أنه تعالى أمر بالإنفاق في الآيتين المذكورتين فهو أنه أمر بالإنفاق في الطاعات دون التبذير والإنفاق في المعاصي ؛ لأنه لا يجوز أن يأمر بما نهى عنه ودل على قبحه ، وكذا الجواب عن الخبر .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : لا حجر على حر فحديث مرسل ، ولو صح لاحتمل لا حجر عليه بغير حكم .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الرشيد فالمعنى فيه وجود الإصلاح منه .

                                                                                                                                            [ ص: 357 ] وأما قياسهم بعلة أنه ممن يصح إقراره على نفسه فالمعنى فيه انتفاء التهمة عنه فيما يتعلق بنفسه ولحوقها فيما يتعلق بماله كالعبد .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأنه لما لم يجز أن يبطل ما يستقبل من عقود نفسه فأولى أن لا يجوز ذلك لغيره ، فهو أن غيره لم يبطل عقوده المستقبلة ، وإنما وقوع الحجر عليه منع من صحة العقود منه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية