الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر ما وصفناه من تحريم الرضاع بعد ما قدمنا من التحريم بالنسب ، فقد مضى من المنصوص على تحريمهن في الآية تسع : سبع من النسب ، واثنتان من الرضاع ، وبقي من المنصوص على تحريمهن في الآية خمس حرمهن الله تعالى تحريم مصاهرة بعقد نكاح :

                                                                                                                                            إحداهن أم الزوجة بقوله : وأمهات نسائكم .

                                                                                                                                            والثانية : بنت الزوجة : وهي الربيبة بقوله تعالى : وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم .

                                                                                                                                            والثالثة : زوجة الابن ، وهي حليلته بقوله تعالى : وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم .

                                                                                                                                            والرابعة : زوجة الأب بقوله تعالى في الآية الأخرى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف وفيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الصحيح إلا ما قد سلف بالزنا والسفاح ، فإن كان نكاحهن حلالا لأنهن لم يكن حلائل .

                                                                                                                                            والخامسة : الجمع بين الأختين بقوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف .

                                                                                                                                            فهؤلاء الخمس حرمن بالقرآن ، ثم جاءت السنة بتحريم اثنتين :

                                                                                                                                            إحداهما : تحريم الجمع بين المرأة وعمتها .

                                                                                                                                            [ ص: 200 ] والثانية : تحريم الجمع بين المرأة وخالتها .

                                                                                                                                            وسنذكر السنة الواردة ، فصار المحرمات بعقد النكاح في القرآن والسنة سبعا ، كما كان المحرمات بالأنساب سبعا ، وكما صارت المحرمات بالرضاع سبعا ، وهؤلاء السبع المحرمات بعقد النكاح ينقسم حكمهن في التحريم ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            قسم حرمن بالعقد تحريم تأبيد .

                                                                                                                                            وقسم حرمن بالعقد تحريم جمع .

                                                                                                                                            وقسم حرمن بالعقد تحريم جمع وبالدخول تحريم تأبيد .

                                                                                                                                            فأما المحرمات بالعقد تحريم تأبيد فهن ثلاث :

                                                                                                                                            إحداهن : أم الزوجة ، هي حرام عليه بالعقد على البنت سواء دخل بالبنت أم لا ، أقام معها أو فارقها ، قد صارت أمها حراما عليه أبدا ، وكذلك أم الأم ومن علا من جداتها حرمن عليه على التأبيد ، وهل يحرمن بالاسم أو بمعناه ؟ على ما مضى من الوجهين ، فإن وطئ واحدة منهن بعقد حد ، وإن كان بملك يمين فعلى ما مضى من القولين .

                                                                                                                                            والثانية : زوجة الأب محرمة على الابن بعقد الأب عليها تحريم تأبيد ، سواء دخل الأب بها أم لا ، وكذلك زوجة الجد ومن علا من الأجداد محرمة عليه تحريم تأبيد ، وهل حرمن بالاسم أو بمعناه ؟ على ما ذكرنا من الوجهين ، فإن وطئ واحدة منهن بعقد حد ، وإن كان بملك يمين فعلى قولين .

                                                                                                                                            روى عدي بن ثابت عن يزيد بن البراء بن عازب عن أبيه قال مر بي خالي ومعه لواء ، فقلت : يا خالي ، أين تذهب ؟ فقال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه آتيه برأسه .

                                                                                                                                            والثالثة : زوجة الابن محرمة على الأب لعقد الابن عليها تحريم تأبيد ، سواء دخل بها الابن أم لا ، وهي الحليلة ، واختلف في تسميتها الحليلة على ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أنها سميت حليلة : لأنها تحل للزوج .

                                                                                                                                            والثاني : لأنها تحل في المكان الذي يحل به الزوج .

                                                                                                                                            والثالث : لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه .

                                                                                                                                            وإذا حرمت حليلة الابن ، فكذلك حليلة ابن الابن وإن سفل تحرم على الأب وإن علا ، وهل تحرم بالاسم أو بمعناه ؟ على ما مضى من الوجهين ، فإن وطئ واحدة منهن بعقد حد ، وإن كان بملك يمين فعلى ما مضى من القولين .

                                                                                                                                            فإن كان الابن قد وطئها بملك اليمين ، والأب قد وطئها بالزوجية حد قولا واحدا ، وأما [ ص: 201 ] القولان إذا كان الأب قد وطئها بالزوجية ، والابن قد وطئها بملك اليمين ، فيصور الفرق بينهما في الحكم بحده فلزمهما في المعنى .

                                                                                                                                            وأما المحرمات بالعقد تحريم جمع ، منهن ثلاث :

                                                                                                                                            إحداهن : الجمع بين الأختين ، فإذا عقد على امرأة حرم عليه أختها ، وسواء كانت الأخت للأب والأم ، أو للأب ، أو للأم ، فإذا فارق التي تزوجها منهما حل له أختها .

                                                                                                                                            والثانية : الجمع بين المرأة وعمتها ، كالجمع بين الأختين ، وكذلك الجمع بين المرأة وعمة أبيها وجدها ، وعمة أمها وجدتها ، ثم على ما ذكرنا من تحريمهما بالاسم أو بمعناه .

                                                                                                                                            والثالث : الجمع بين المرأة وخالتها ، وكذلك تحريم الجمع بينها وبين خالة أمها وجداتها ، وخالة أبيها وأجدادها ، ثم على ما ذكرنا من تحريمهما بالاسم أو بمعناه .

                                                                                                                                            وأما المحرمات بالعقد تحريم عقد وبالدخول تحريم تأبيد ، فجنس واحد ، وهن الربائب .

                                                                                                                                            والربيبة بنت الزوجة ، فإذا عقد على امرأة حرمت عليه ابنتها تحريم جمع ، فإذا دخل بالأم حرمت عليه ابنتها تحريم تأبيد ، وكذلك بنت بنتها ، وبنت ابنها وإن سفلت تحرم بالعقد تحريم جمع ، وبالدخول تحريم تأبيد ، ثم على ما ذكرنا من تحريمها بالاسم أو بمعناه .

                                                                                                                                            فإن قيل : لماذا حرمتم بنت الربيبة كالربيبة : فهلا حرمتم بنت حليلة الابن كالحليلة ؟ .

                                                                                                                                            قلنا : لا تحرم ، والفرق بينهما من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن بنت الربيبة يطلق عليها اسم الربيبة فحرمت كالربيبة ، وبنت الحليلة لا يطلق عليها اسم الحليلة فلم تحرم .

                                                                                                                                            والثاني : هو أن الأصل في المعنى المعتبر في تحريم المصاهرة إنما هو يصير الزوج الواحد قد جمع بين ذي نسبين كحليلة الابن مع الأب ، وهذا المعنى موجود في بنت الربيبة فحرمت كالربيبة ، وهو غير موجود في بنت الحليلة : لأنه لم يجمع الواحد ذات نسبين ، ولا اجتمع في الواحدة ذو نسبين ، فلم يحرم ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية