فصل : وأما  المجوس   فقد اختلف الناس فيهم هل هم أهل الكتاب أم لا ؟   وعلق  الشافعي   القول فيهم ، وقال في موضع : هم أهل كتاب ، وقال في موضع : ليسوا أهل كتاب . فاختلف أصحابنا لاختلاف قول  الشافعي      : فكان بعضهم يخرجه على اختلاف قولين :  
أحدهما : أنه لا كتاب لهم : لقوله تعالى :  إنما أنزل الكتاب على طائفتين      [ الأنعام : 156 ] يعني  اليهود   والنصارى   ، فدل على أنه لا كتاب لغيرهما : ولأن  عمر   لما أشكل عليه أمرهم سأل الصحابة عنهم ، فروى له  عبد الرحمن بن عوف   أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  سنوا بهم سنة أهل الكتاب  فلما أمر بإجرائهم مجرى أهل الكتاب دل على أنه ليس لهم كتاب ، فعلى هذا القول يجوز قبول جزيتهم لهذا الحديث ، وأن  عمر   أخذ الجزية منهم  بالعراق      . وقد روي  أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من  مجوس هجر      . فأما أكل ذبائحم ونكاح نسائهم فلا يجوز : لعدم الكتاب فيهم .  
والقول الثاني فيهم : أنهم أهل كتاب : لأن الله تعالى يقول :  من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد      [ التوبة : 29 ] وقد ثبت أخذ الجزية منهم ، فدل على أنهم من أهل الكتاب ، وروي عن  علي بن أبي طالب   ، أنه قال : - وكانوا أهل كتاب - وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته ، فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد ، فامتنع منهم ، فدعا آل مملكته ، فقال : " تعلمون دينا خيرا من دين  آدم   ، فقد كان  آدم   ينكح بنيه من بناته ، فأنا على دين  آدم   ما يرغب بكم عن دينه فبايعوه وخالفوا الدين ، وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم ، فأصبحوا وقد أسري على كتابهم ، فرفع من بين أظهرهم ، وذهب العلم الذي في      [ ص: 225 ] صدورهم ، وهم أهل كتاب ، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم  وأبو بكر   وعمر   رضي الله تعالى عنهما منهم الجزية " .  
فنكح الملك أخته ، وأمسكوا عن الإنكار عليه ، إما متابعة لرأيه ، وإما خوفا من سطوته ، فأصبحوا وقد أسري بكتابهم ، فعلى هذا القول يجوز إقرارهم بالجزية :  وهل يجوز أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم أم لا   ؟ على وجهين :  
أحدهما : يجوز لإجراء حكم الكتاب عليهم .  
والوجه الثاني : لا يجوز : لأن طريق كتابهم الاجتهاد ، دون النص ، فقصر حكمه عن حكم النص .  
وقال آخرون من أصحابنا : ليس ما اختلف نص  الشافعي   عليه اختلاف قوليه فيه ، إنما هو على اختلاف حالين ، فالموضع الذي قال : إنهم أهل كتاب ، يعني في قبول الجزية وحدها : حقنا لدمائهم أن لا تستباح بالشك ، والموضع الذي قال : إنهم غير أهل الكتاب ، يعني في أن لا تؤكل ذبائحهم ، ولا تنكح نساؤهم . وهذا قول سائر الصحابة ، والتابعين ، والفقهاء .  
وخالف  أبو ثور   فجوز أكل ذبائحهم ، ونكاح نسائهم .  
وروى  إبراهيم الحربي   تحريم ذلك عن سبعة عشر صحابيا ، وقال : ما كنا نعرف خلافا فيه حتى جاءنا خلافا من  الكرخ   ، يعني خلاف  أبي ثور      : لأنه كان يسكن  كرخ بغداد      .  
واستدل  أبو ثور   على أكل ذبائحهم ، وجواز مناكحتهم بحديث  عبد الرحمن بن عوف   أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  سنوا بهم سنة أهل الكتاب  قال : وقد تزوج  حذيفة بن اليمان   مجوسية  بالعراق   ، فاستنزله عنها  عمر   فطلقها ، فلو لم يجز لأنكر عليه ، ولفرق بينهما من غير طلاق : ولأن كل صنف جاز قبول جزيتهم جاز أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم  كاليهود   والنصارى   ، قالوا : ولأن كتاب  اليهود   والنصارى   نسخ ، وكتاب  المجوس   رفع ، ولا فرق بين حكم المنسوخ والمرفوع : فلما لم يمنع نسخ كتابي  اليهود   والنصارى   من أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم لم يمنع رفع كتاب  المجوس   من ذلك . وهذا خطأ : لأن  إبراهيم الحربي   رواه عن سبعة عشر صحابيا لا يعرف لهم مخالفا ، فصار إجماعا : لأن من لم يتمسك بكتاب لم تحل ذبائحهم ونسائهم كعبدة الأوثان ، وليس  للمجوس   كتاب يتمسكون به كما يتمسك  اليهود   والنصارى   بالتوراة والإنجيل ، فوجب أن يكون حكمهم مخالفا لحكمهم ، ولأن نكاح المشركات محظور بعموم النص ، فلم يجز أن يستباح باحتمال : ولأن  عمر   مع الصحابة توافقوا في قبول جزيتهم للشك فيهم ، فكيف يجوز مع هذا الشك أن يستبيح أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم .  
وقد  كتب  عمر بن عبد العزيز   إلى  الحسن البصري   يسأله كيف أخذ الناس الجزية من  المجوس   ، وأقروهم على عبادة النيران ، وهم كعبدة الأوثان فكتب إليه  الحسن   ، إنما أخذوا منهم الجزية : لأن  العلاء بن الحضرمي      - وكان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على  البحرين      - أخذها      [ ص: 226 ] منهم ، وأقرهم  ، فدل على أنهم أفردوا من أهل الكتاب بأخذ الجزية وحدها ، فلذلك خصهما  عمر بن عبد العزيز   بالسؤال والإنكار ، فأما استدلاله بقوله : "  سنوا بهم سنة أهل الكتاب     " فيعني به في أخذ الجزية لأمرين :  
أحدهما : أنه روى ذلك عند الشك في قبول جزيتهم .  
والثاني : أن الصحابة أثبتوا هذا الحديث في قبول جزيتهم ، ولم يجوزوا به أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم .  
وأما تزويج  حذيفة   بمجوسية ، فالمروي أنها كانت يهودية ، ولو كانت مجوسية ، فقد استنزله عنها  عمر   فنزل ، ولو كانت تحل له لما استنزله عنها  عمر   ، ولما نزل عنها  حذيفة   ، وأما قياسه على  اليهود   والنصارى   ، فالمعنى فيهم تمسكهم بكتابهم ، فثبت حرمته فيهم ، وليس كذلك  المجوس      .  
وأما قوله : إن حكم المرفوع والمنسوخ سواء ، فليس بصحيح : لأن المنسوخ باقي التلاوة فنفيت حرمته فيهم ، وليس كذلك المجوسي ، وأما المرفوع مرفوع التلاوة فارتفعت حرمته ، هذا الكلام فيمن له شبهة بكتاب من  الصابئين   والسامرة   والمجوس      .  
فأما من تمسك بصحف  شيث   ، أو زبور  داود   ، أو شيء من الصحف الأولى ، أو من زبر الأولين ، فلا يجري عليه حكم أهل الكتاب ، ويكونوا كمن لا كتاب له ، فلا تقبل لهم جزية ، ولا تؤكل لهم ذبيحة ، ولا تنكح فيهم امرأة لأمرين :  
أحدهما : أن هذه الكتب مواعظ ووصايا ، وليس فيهما أحكام وفروض ، فخالفت التوراة والإنجيل .  
والثاني : ليست كلام الله ، وإنما هي وحي منه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم  أتاني  جبريل   فأمرني أن آمر أصحابي ، أو من تبعني أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية  ، فكان ذلك وحيا من الله ، ولم يكن من كلامه ، فخرج عن حكم القرآن الذي تكلم به ، كذلك هذه الكتب ، والله أعلم .  
				
						
						
