قال الشافعي ، رحمه الله تعالى : " أخبرنا مالك عن ابن شهاب ، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي ، عن أبيهما ، عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن نكاح المتعة وأكل لحوم الحمر الأهلية ( قال ) وإن كان حديث عبد العزيز بن عمر عن الربيع بن سبرة ثابتا فهو مبين أن النبي صلى الله عليه وسلم أحل نكاح المتعة ثم قال " هي حرام إلى يوم القيامة " ( قال ) وفي القرآن والسنة دليل على تحريم المتعة قال الله تعالى إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن فلم يحرمهن الله على الأزواج إلا بالطلاق ، وقال تعالى : فإمساك بمعروف أو تسريح ، وقال تعالى : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج فجعل إلى الأزواج فرقة من عقدوا عليه النكاح مع أحكام ما بين الأزواج ، فكان بينا - والله أعلم - أن نكاح المتعة منسوخ بالقرآن والسنة : لأنه إلى مدة ، ثم نجده ينفسخ بلا إحداث طلاق فيه ، ولا فيه أحكام الأزواج " .
قال الماوردي : وهذا كما قال : نكاح المتعة حرام ، وهو أن يقول للمرأة : أمتعيني نفسك شهرا ، أو موسم الحج ، أو ما أقمت في البلد ، أو يذكر ذلك بلفظ النكاح أو التزويج لها ، أو لوليها بعد أن يقدره بمدة ، إما معلومة أو مجهولة ، فهو نكاح المتعة الحرام . وهو قول العلماء من الصحابة ، والتابعين ، والفقهاء ، وحكي عن ابن عباس ، وابن أبي مليكة ، وابن جريج ، والإمامية رأيهم فيه جوازا : استدلالا بقول الله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ النساء : 3 ] . فكان على عمومه في المتعة المقدرة والنكاح المؤبد ، وقال تعالى : فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن [ النساء : 24 ] . وهذا أبلغ في النص .
وروى سلمة بن الأكوع أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يقول : إن الله قد آذن لكم فاستمتعوا . وهذا نص .
وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما : متعة النساء ، ومتعة الحج . فأخبر بإباحتهما على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وما ثبت إباحته بالشرع لم يكن له تحريمه بالاجتهاد ، قالوا : ولأنه عقد منفعة ، فصح تقديره بمدة كالإجارة ، ولأنه قد ثبت إباحتها بالإجماع فلم ينتقل عنه إلى التحريم إلا بالإجماع .
[ ص: 329 ] ودليلنا : قولي الله تعالى : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين [ المؤمنون : 5 ، 6 ] وليست هذه زوجته ، ولا ملك يمين فوجب أن يكون فيها ملوما ، ثم قال : فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون [ المؤمنون : 7 ] . فوجب أن يكون عاديا .
ويدل عليه من السنة مع الحديث الذي رواه الشافعي في صدر الباب ، ما رواه أبو ضمرة ، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، عن الربيع بن سبرة ، عن أبيه قال : قدمت مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال : " استمتعوا من هؤلاء النساء " ، والاستمتاع يومئذ عندنا النكاح ، فكلم النساء من كلمهن فقلن لا ينكح الأنبياء ، ونبيكم أجل . فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : اضربوا بينكم وبينهن أجلا ، فخرجت أنا وابن عم لي عليه برد ، وعلي برد ، وبرده أجود من بردي ، وأنا أشب منه فأتينا امرأة فأعجبها برده وأعجبها شبابي ، فقالت : برد كبرد فكان الأجل بيني وبينها عشرا ، فبت عندها تلك الليلة ، ثم غدوت ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المقام والركن يخطب الناس ، فقال : " يا أيها الناس قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من هؤلاء النساء ، وإن الله قد حرم ذلك وهو حرام إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء ، فليخل سبيلها ، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " .
وروى ابن أبي لهيعة ، عن موسى بن أيوب ، عن إياس بن عامر ، عن علي بن أبي طالب قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة ، وقال : إنما كانت لمن لم يجد ، فلما أنزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت .
وروى عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح المتعة ثلاثا ثم حرمها .
وروى نافع عن ابن عمر ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية ، وعن متعة النساء وما كنا مسافحين .
وروى عكرمة بن عمار ، عن سعيد ، عن أبي هريرة ، قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فنزلنا عند ثنية الوداع ، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مصابيح ونساء يبكين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث .
[ ص: 330 ] وحكي أن يحيى بن أكثم دخل على المأمون ، فقال : يا أمير المؤمنين أحللت المتعة ، وقد حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال المأمون : يا يحيى إن تحريم المتعة حديث رواه الربيع بن سبرة أعرابي يبول على عقبيه ولا أقول به ، فقال يحيى بن أكثم : يا أمير المؤمنين هاهنا حديث آخر . فقال : هاته يا يحيى ، فقال : حدثنا القعنبي ، فقال المأمون : لا بأس به عن من : قال يحيى : عن مالك ، فقال المأمون : كان أبي يبجله ، هيا ، فقال يحيى : عن الزهري ، فقال المأمون : كان ثقة في حديثه ، ولكن كان يعمل لبني أمية هيا ، فقال يحيى : عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي ابن الحنفية ، قال : ففكر المأمون ساعة ، ثم قال : كان أحدهما يقول بالوعيد ، والآخر بالإرجاء ، ( هيا ) قال يحيى : عن أبيهما محمد بن علي ، قال : هيا ، قال يحيى : عن علي بن أبي طالب ، قال : هيا ، قال يحيى : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عام خيبر عن المتعة ، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية ، فقال المأمون : يا غلام اركب ، فناد أن المتعة حرام .
فإن قيل : فهذه الأحاديث مضطربة يخالف بعضها بعضا ، لأنه روي في بعضهما أنه حرمها عام خيبر ، وروي في بعضها أنه حرمها عام الفتح بمكة ، وروي في بعضها عنه حرمها في غزوة تبوك ، وروي في بعضها أنه حرمها في حجة الوداع ، وبين كل وقت ووقت زمان ممتد ، ففيه جوابان :
أحدهما : أنه تحريم كرره في مواضع ليكون أظهر وأنشر حتى يعلمه من لم يكن قد علمه : لأنه قد يحضر في بعض المواضع من لم يحضر معه في غيره ، فكان ذلك أبلغ في التحريم وأوكد .
والجواب الثاني : أنها كانت حلالا ، فحرمت عام خيبر ، ثم أباحها بعد ذلك : لمصلحة علمها ، ثم حرمها في حجة الوداع ، ولذلك قال فيها : " وهي حرام إلى يوم القيامة " ، تنبيها على أن ما كان من التحريم المتقدم موقت تعقبته إباحة ، وهذا تحريم مؤبد لا تتعقبه إباحة ، ولأنه إجماع الصحابة ، روي ذلك عن أبي بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وابن الزبير ، وأبي هريرة .
قال ابن عمر : لا أعلمه إلا السفاح نفسه .
وقال ابن الزبير : المتعة هي الزنا الصريح .
فإن قيل : فقد خالفهم ابن عباس ، ومع خلافه لا يكون الإجماع ، قيل : قد رجع ابن عباس عن إباحتها ، وأظهر تحريمها ، وناظره عبد الله بن الزبير عليها مناظرة مشهورة ، وقال له عروة بن الزبير : أهلكت نفسك ، قال : وما هو يا عروة ، قال : تفتي بإباحة المتعة ، وكان أبو بكر وعمر ينهيان عنها ، فقال : عجبت منك ، أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخبرني عن أبي بكر وعمر ، فقال له عروة : إنهما أعلم بالسنة منك فسكت .
[ ص: 331 ] وروى المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير : أن رجلا أتى ابن عباس ، فقال : هل لك فيما صنعت نفسك في المتعة حتى صارت به الركاب ، وقال الشاعر :
أقول للشيخ لما طال مجلسه يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس يا صاح هل لك في بيضاء بهكنة
تكون مثواك حتى يصدر الناس
ومن القياس : أنه حل عقد جاز مطلقا ، فبطل مؤقتا كالبيع طردا والإجارة عكسا ، ولأن للنكاح أحكاما تتعلق بصحتها ، وينتفي عن فاسدها ، وهي الطلاق والظهار ، والعدة والميراث ، فلما انتفت عن المتعة هذه الأحكام دل على فساده كسائر المناكح الفاسدة .
فأما الجواب عن قوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ النساء : 3 ] فهو أن المتعة غير داخلة في النكاح : لأن اسم النكاح ينطلق على ما اختص بالدوام : لذلك قيل : قد استنكحه المدى لمن دام به ، فلم يدخل فيه المتعة المؤقتة ، ولو جاز أن يكون عاما لخص بما ذكرنا .
وأما الجواب عن قوله تعالى : فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن [ النساء : 24 ] فمن وجهين :
أحدهما : أن عليا وابن مسعود رويا أنها نسخت بالطلاق والعدة والميراث .
والثاني : أنها محمولة على الاستمتاع بهن في النكاح ، وقول ابن مسعود إلى أجل مسمى يعني به المهر دون العقد .
وأما حديث سلمة بن الأكوع ، فالإباحة فيه منسوخة بما رويناه من التحريم الوارد بعده .
وأما تفرد عمر بالنهي عنها فما تفرد به ، وقد وافقه عليه الصحابة ، وإنما كان إماما فاختص بالإعلان والتأديب ، ولم يكن بالذي يقدم على تحريم بغير دليل ، ولكانوا قد أقدموا عليه يمسكون عنه ، ألا تراه يقول على المنبر :لا تغالوا في صدقات النساء ، فلو كانت تكرمة لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاكم بها ، فقالت امرأة : أعطانا الله ويمنعنا ابن الخطاب ، فقال عمر : وأين أعطاكن ؟ فقالت : بقوله : وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا [ النساء : 20 ] فقال عمر : كل الناس أفقه من عمر حتى امرأة .
[ ص: 332 ] وروي أن عمر قال يوما على المنبر : أيها الناس استمعوا ، فقال سلمان : لا نسمع ، فقال عمر : ولم ذاك ؟ فقال سلمان : لأن الثياب لما قدمت من العراق ، وفرقتها علينا ثوبا وأخذت ثوبين لنفسك ، فقال عمر : أما هذا فثوبي ، وأما الآخر فاستعرته من ابني ، ثم دعا ابنه عبد الله ، وقال : أين ثوبك ؟ فقال : هو عليك ، فقال سلمان : قل الآن ما شئت يا أمير المؤمنين ، فكيف يجوز مع اعتراضهم عليه في مثل هذه الأمور أن يمسكوا عنه في تحريم ما قد أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا ينكرونه لولا اعترافهم بصحته ووفاقهم على تحريمه فإن قيل : فقد روي عن جابر بن عبد الله ، وسلمة بن الأكوع ، أنهما قالا : سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل المتعة ، وسمعنا عمر ينهى عنها ، فتبعنا عمر ، قيل معناه : تبعنا عمر ، فيما رواه من التحريم : لأنه روى لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح المتعة ثلاثا ثم حرمها ، فكيف يجوز لولا ما ذكرنا أن يضاف إلى جابر وأبي سلمة أنهما خالفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبعا عمر ، ولو تبعاه لما تبعه غيرهما من الصحابة .
وأما قياسهم على الإجارة فالمعنى فيهما : أنها لا تصح مؤبدة ، فصحت مؤقتة ، والنكاح لما صح مؤبدا لم يصح موقتا .
وأما الجواب عن استدلالهما بأنه قد ثبت إباحتها بالإجماع ، فلم يعدل إلى تحريمها إلا بالإجماع فمن وجهين :
أحدهما : أنه ما ثبت به إباحتها هو الذي ثبت به تحريمها ، فإن كان دليلا في الإباحة وجب أن يكون دليلا في التحريم .
والثاني : أن الإباحة الثابتة بالإجماع هي إباحة مؤقتة تعقبها نسخ ، وهم يدعون إباحة مؤبدة لم يتعقبها نسخ ، فلم يكن فيما قالوه إجماع .


