الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ القول في الصفات المعتبرة في المهور ]

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ومهر من هو في مثل سنها ، وعقلها وحمقها ، وجمالها وقبحها ، ويسرها وعسرها ، وأدبها ، وصراحتها ، وبكرا كانت أو ثيبا ؛ لأن المهور بذلك تختلف " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح .

                                                                                                                                            وصفات الذات المعتبرة في المهور شرط في الحكم بمهر المثل ، كما تعتبر صفات ما يقوم ، والصفات المعتبرة في مهر المثل عشرة :

                                                                                                                                            أحدها : السن ؛ لاختلاف المهر باختلافه ؛ لأن الصغيرة أرجى للولد ، وألذ في الاستمتاع من الكبيرة .

                                                                                                                                            والثاني : عقلها وحمقها ، فإن للعاقلة مهرا ، وللرعناء والحمقاء دونه ؛ لكثرة الرغبة في العاقلة ، وقلة الرغبة في الحمقاء . وحكي عن قتادة ، في قول الله تعالى :

                                                                                                                                            [ ص: 489 ] ليبلوكم أيكم أحسن عملا أي أيكم أتم عقلا .

                                                                                                                                            وروى كليب بن وائل عن عبد الله بن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا : أيكم أحسن عملا ، ثم قال : أيكم أحسن عقلا ، وأردع عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله تعالى .

                                                                                                                                            والثالث : جمالها وقبحها ، فإن مهر الجميلة أكثر من مهر القبيحة . وقد روى سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ينكح النساء لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها ، فعليك بذات الدين تربت يداك .

                                                                                                                                            والرابع : يسارها وإعسارها ؛ لأن ذا المال مطلوب ومخطوب ، فيكثر مهر الموسرة ؛ بكثرة طالبها ، ويقل مهر المعسرة ؛ لقلة خاطبها . وقد قال ابن عباس وقتادة في قول الله تعالى : وإنه لحب الخير لشديد [ العاديات : 8 ] ، يعني المال .

                                                                                                                                            وروى مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تزوج ذات جمال ومال فقد أصاب سدادا من عوز " .

                                                                                                                                            والخامس : إسلامها وكفرها ؛ لقوله تعالى ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم [ البقرة : 221 ] .

                                                                                                                                            والسادس : عفتها وفجورها ؛ لأن الرغبة في العفيفة أكثر ، ومهرها لكثرة الراغب فيها أكثر . وقد قال الله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك [ النور : 3 ] .

                                                                                                                                            والسابع : حريتها ورقها ؛ لنقصان الأمة عن أحكام الحرة ، وإن كان نكاحها لا يحل لكل حر .

                                                                                                                                            والثامن : بكارتها وثيوبتها ؛ لأن الرغبة في البكر أكثر منها في الثيب ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : عليكم بالأبكار ؛ فإنهن أعذب أفواها ، وأنتق أرحاما ، وأغر غرة ، وأرضى باليسير .

                                                                                                                                            ومعنى قوله : " أنتق أرحاما " ، أي : أكثر أولادا .

                                                                                                                                            وفي قوله : " وأغر غرة " روايتان :

                                                                                                                                            أحدهما : غرة بكسر الغين ، يريد أنهن أبعد من معرفة الشر ، وأقل فطنة له .

                                                                                                                                            والرواية الثانية : وأغر غرة ، بضم الغين ، وفيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه أراد غرة البياض ؛ لأن الأغير وطول التعبيس يجيلان اللون ، ويبليان الجسد .

                                                                                                                                            والثاني : أنه أراد حسن الخلق وحسن العشرة .

                                                                                                                                            [ ص: 490 ] وقال معاذ بن جبل : " عليكم بالأبكار ؛ فإنهن أكثر حبا وأقل خبا " .

                                                                                                                                            والتاسع : أدبها وبذاؤها ؛ لأن الأديبة مرغوب فيها ، والبذيئة مهروب منها ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : البذاء لؤم وصحبة الأحمق شؤم .

                                                                                                                                            والعاشر : قول الشافعي : وصراحتها ، فاختلف أصحابنا في معناه فقال بعضهم :

                                                                                                                                            يريد فصاحتها ؛ لأن لفصاحة المنطق حظا من الاستمتاع .

                                                                                                                                            وقال الأكثرون : بل أراد به صراحة النسب المقصود في المناكح .

                                                                                                                                            والصريح النسب : الذي أبواه عربيان .

                                                                                                                                            والهجين : الذي أبوه عربي وأمه أمة .

                                                                                                                                            والمذرع : فيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : الذي أمه عربية وأبوه عبد .

                                                                                                                                            والثاني : أنه الذي أمه أشرف نسبا من أبيه .

                                                                                                                                            قال الشاعر :


                                                                                                                                            إن المذرع لا تغني خئولته كالبغل يعجز عن شوط المحاضير

                                                                                                                                            والفلنقس فيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه الذي أبوه مولى ، وأمه عربية .

                                                                                                                                            والثاني : أنه الذي أبواه عربيان ، وجدتاه من قبل أبويه أمتان .

                                                                                                                                            فهذه عشرة أوصاف تعتبر في مهر مثلها ، لاختلاف المهر بها ، وقد ذكر الشافعي منها سبعة ، وأغفل ثلاثة وهي : الدين والعفة والحرية ؛ اكتفاء بما ذكره منها في اعتبار الكفاءة .

                                                                                                                                            وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على بعضها ، ونبه على باقيها بقوله عليه السلام : " تنكح المرأة لدينها ، وجمالها ، ومالها ، وميسمها - وروي ووسامتها - فعليك بذات الدين تربت يداك " .

                                                                                                                                            وفيها ثلاثة تأويلات :

                                                                                                                                            أحدها : معناه : افتقرت يداك ، إن لم تظفر بذات الدين ، يقال : ترب الرجل إذا افتقر ، وأترب إذا استغنى .

                                                                                                                                            [ ص: 491 ] والثاني : أن معناه استغنت يداك إن ظفرت بذات الدين ، ويكون تربت من أسماء الأضداد بمعنى الغنى والفقر رآه في قدر تلك الصفة ، وقسطها من تلك المهور ، فزادها إن كانت الصفة زائدة ، أو نقصها إن كانت الصفة ناقصة ؛ لأنه قل ما يتساوى صفاتها ، وصفات جميع نساء عصبتها فلم يجد بدا من اعتبار ما اختلفن فيه بما ذكرنا ، والله أعلم .

                                                                                                                                            والثالث : أنها كلمة تقال على ألسنة العرب ، لا يراد بها حمد ولا ذم ، كما يقال ما أشجعه ، قاتله الله ، وكالذي حكاه الله تعالى عن سارة زوجة إبراهيم حين بشرت بالولد قالت ياويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا [ هود : 72 ] ، وهي لا تدعو بالويل عند البشرى ، ولكن كلمة مألوفة للنساء عند سماع ما يعجل من فرح أو حزن ، فإذا وجدت أوصافها التي يختلف بها المهر من يسار عصبتها ، وكانت مهورهن مقدرة صار مهر مثلها ذلك القدر ، فإن خالفتهن في إحدى الصفات أشهد الحاكم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية