فصل : وأما الفصل الثاني في  العزل   فهو : على ثلاثة أضرب :  
أحدها : أن يعزله الإمام المولي .  
فإن كان عزله عن اجتهاد أدى إليه ، إما لظهور ضعفه وإما لوجود من هو أكفأ منه ، جاز أن يعزله .  
وإن لم يؤده الاجتهاد إلى عزله لاستقلاله بالنظر في عمله على الصحة والاستقامة لم يكن له أن يعزله ؛ لأنه لا مصلحة في عزل مثله .  
فإن عزله انعزل ، وإن كان الاجتهاد بخلافه .  
لأن  عزله حكم من أحكام الإمام   لا يرد إذا لم يخالف نصا أو إجماعا . وعزله يكون بالقول فإن قلد غيره واقترن بتقليده شواهد العزل ، كان تقليد غيره عزلا له .  
وإن لم تقترن به شواهد العزل كان الأول على ولايته والثاني مشاركا له في نظره .  
وينعزل بعزله جميع خلفائه إن كان خاص العمل .  
ولا ينعزل من ولاه على الأيتام والوقوف من أمنائه لنظرهم في حق غيره .  
فإن نظر هذا المعزول قبل علمه بعزله ، ففي نفوذ أحكامه قولان كالوكيل إذا عقد بعد عزل موكله وقبل علمه :  
أحدهما : أن أحكامه باطلة ، إذا قيل إن عقد الوكيل باطل .  
والثاني : أن أحكامه جائزة ، إذا قيل إن عقد الوكيل جائز .  
وقال بعض أصحابنا : بل أحكامه جائزة قولا واحدا ، وإن كانت عقود الوكيل على قولين .  
وفرق بينهما من وجهين :  
أحدهما : أن القاضي ناظر في حق غير المولي ، والوكيل ناظر في حق الموكل .  
والثاني : أن  موت الإمام المولي لا يوجب عزل القاضي   وموت الموكل موجب لعزل الوكيل ، فقوي القاضي بهذين الفرقين على الوكيل ، فصح لأجلها أحكام القاضي وإن لم تصح عقود الوكيل .  
والضرب الثاني : أن  يعزل نفسه      .  
فإن كان لعذر جاز اعتزاله وإن كان لغير عذر منع من الاعتزال وإن لم يجبر عليه ؛ لأن  ولاية القضاء من العقود الجائزة دون اللازمة   ولذلك نفذ فيه عزل الإمام وإن خالف      [ ص: 334 ] الأولى ، لكن لا يجوز أن يعتزل إلا بعد إعلام الإمام واستعفائه ؛ لأنه موكول لعمل يحرم عليه إضاعته .  
وعلى الإمام أن يعفيه من النظر إذا وجد غيره حتى لا يخلو العمل من ناظر .  
فإن أعفاه قبل ارتياد غيره ، جاز إن كان لا يتعذر ولم يجز إن تعذر .  
ويتم عزله باستعفائه وإعفائه ولا يتم بأحدهما .  
فإن نظر بين استعفائه وإعفائه صح نظره .  
ولا يكون قوله قد عزلت نفسي عزلا : لأن العزل يكون من المولي وهو لا يجوز أن يولي نفسه فلم يجز أن يعزلها ، وإنما هو أن يستعفي فيعفى .  
والضرب الثالث : أن تحدث  أسباب العزل   وهي على ثلاثة أضرب : موت وعجز وجرح .  
فأما  الموت      : فهو موت المولي فلا يخلو المولي من ثلاثة أحوال :  
أحدها : أن يكون إماما عام الولاية على القضاء وغيره فلا تبطل بموته ولايات القضاة ، وإن بطل بموت الموكل وكالة الوكيل ؛ لأن تولية الإمام للقاضي استنابة في حقوق المسلمين لا في حق نفسه ، بخلاف الوكيل المستناب في حق موكله .  
قد  قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم  عتاب بن أسيد   قضاء  مكة   وصدقات أهلها  فلما مات اختبأ  عتاب   وامتنع من القضاء فأظهره  سهيل بن عمرو   وقال : إن يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات فإن المسلمين باقون ، فعاد  عتاب   إلى نظره  ، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة فصار إجماعا .  
والحال الثانية : أن يكون المولي قاضي ناحية أو صقع قد استخلف فيه من ينوب عنه في القضاء ، فيكون  موته مبطلا لولايات خلفائه لمعنيين      :  
أحدهما : أنه خاص النظر خاص العمل ، فخالف موت الإمام في عموم نظره وعموم عمله .  
والثاني : أن الإمام يقدر على استدراك الأمر في موته بتقليد غيره .  
والحال الثالثة : أن يكون المولي هو قاضي القضاة العام الولاية في جميع الأمصار فهو عام العمل خاص النظر .  
فعموم عمله : أنه وال على البلاد كلها .  
وخصوص نظره : أنه مقصور على القضاء دون غيره .  
فشابه الإمام في عموم عمله ، وخالفه في خصوص نظره .  
ففي انعزال القضاة بموته وجهان :  
 [ ص: 335 ] أحدهما : لا ينعزلون لعموم نظره كالإمام .  
والوجه الثاني : ينعزلون بموته لخصوص نظره كقاضي إقليم .  
وأما  العجز      : فهو أن يحدث في القاضي عجز يمنعه من النظر فهو على ثلاثة أضرب :  
أحدها : ما يمنع من التقليد كالعمى والخرس فقد انعزل بحدوثه فيه .  
والضرب الثاني : ما لا يمنع من التقليد كالزمانة فلا ينعزل بها : لأنه يعجز بها عن النهضة ولا يعجز بها عن الحكم .  
والضرب الثالث :  المرض   فإن أعجزه عن النهضة ولم يعجزه عن الحكم لم ينعزل به وإن أعجزه عن النهضة والحكم فإن كان مرجو الزوال لم ينعزل به ، وإن كان غير مرجو الزوال انعزل به .  
وأما  الجرح      : وهو الفسق فإن حدث في المولي كان كموته : لأنه ينعزل بالفسق ، كما ينعزل بالموت ، فيكون على ما مضى من اختلاف أحوال المولي .  
وإن  حدث الفسق في القاضي المولى   فإن استدامه مصرا عليه أنزل به .  
وإن حدث الفسق في القاضي المولي فإن استدامه مصرا عليه انعزل به .  
وإن كان إقلاعه عن ندم وتوبة ، نظر ، فإن كان فسقه قد ظهر قبل التوبة انعزل به .  
وإن لم يظهر حتى تاب منه لم ينعزل به لانتفاء العصمة عنه . وإن هفوات ذوي الهيئات مقالة قل أن يسلم منها إلا من عصم .  
وإذا انعزل بالفسق فحكم في حال انعزاله فإن كان إلزاما بإقرار صح ، وإن كان حكما بشهادة بطل .  
وعليه أن يمتنع من الحكم وينهي حاله إلى الإمام إلى من ولاه من القضاء ليقلد غيره ولا يغتر به الناس إن لم يعرفوه وتقف أحكامهم إن عرفوه .  
وهو في إنهاء حاله بين أمرين : إما أن يظهر الاستعفاف ويكتم حاله ليكون حافظا لستره ، وهو أولاهما ، وإما أن يخبر بحاله وسبب انعزاله ، وإن كره له هتك ستره لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "  من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله     " وإن خرج بكل واحد منهما من مأثم الإمساك .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					