باب في أكل لحوم الهدايا قال الله عز وجل : أكل لحوم الهدايا ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها قال : ظاهره يقتضي إيجاب الأكل ، إلا أن أبو بكر السلف متفقون على أن الأكل منها ليس على الوجوب ، وذلك لأن قوله : على ما رزقهم من بهيمة الأنعام لا يخلو من أن يكون المراد به الأضاحي وهدي المتعة والقران والتطوع أو الهدايا التي تجب من جنايات تقع من المحرم في الإحرام نحو جزاء الصيد وما يجب على اللابس والمتطيب وفدية الأذى وهدي الإحصار ونحوها ، فأما منها ، وأما دم القران والمتعة والتطوع فلا خلاف أيضا أن الأكل منها ليس بواجب ؛ [ ص: 70 ] لأن الناس في دم القران والمتعة على قولين منهم من لا يجيز الأكل منه ومنهم من يبيح الأكل منه ولا يوجبه ، ولا خلاف بين دماء الجنايات فمحظور عليه الأكل السلف ومن بعدهم من الفقهاء أن قوله : فكلوا منها ليس على الوجوب ، وقد روي عن عطاء والحسن وإبراهيم قالوا : " إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل " قال ومجاهد : إنما هو بمنزلة قوله تعالى : مجاهد وإذا حللتم فاصطادوا وقال إبراهيم : كان المشركون لا يأكلون من البدن حتى نزلت : فكلوا منها فإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل . وروى عن يونس بن بكير أبي بكر الهذلي عن قال : الحسن كان الناس في الجاهلية إذا ذبحوا لطخوا بالدم وجه الكعبة وشرحوا اللحم ووضعوه على الحجارة وقالوا لا يحل لنا أن نأكل شيئا جعلناه لله حتى تأكله السباع والطير ، فلما جاء الإسلام جاء الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : شيئا كنا نصنعه في الجاهلية ألا نصنعه الآن فإنما هو لله ؟ فأنزل الله تعالى : فكلوا منها وأطعموا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تفعلوا فإن ذلك ليس لله . وقال : فلم يعزم عليهم الأكل فإن شئت فكل وإن شئت فدع ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الحسن أنه أكل من لحم الأضحية .
قال : وظاهر الآية يقتضي أن يكون المذكور في هذه الآية من بهيمة الأنعام التي أمرنا بالتسمية عليها هي دم القران والمتعة ، وأقل أحوالها أن تكون شاملة لدم القران والمتعة وسائر الدماء وإن كان الذي يقتضيه ظاهره دم المتعة والقران ، والدليل على ذلك قوله تعالى في نسق التلاوة : أبو بكر فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ولا دم تترتب عليه هذه الأفعال إلا دم المتعة والقران ؛ إذ كان سائر الدماء جائزا له فعلها قبل هذه الأفعال وبعدها ، فثبت أن المراد بها دم القران والمتعة . وزعم أن الشافعي منهما ، وظاهر الآية يقتضي بطلان قوله . دم المتعة والقران لا يؤكل
وقد روى جابر وغيرهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم وأنس . كان قارنا في حجة الوداع
وروى أيضا جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم وابن عباس فأكل صلى الله عليه وسلم من دم القران . وأيضا لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا وأنه لم يكن ليختار من الأعمال إلا أفضلها فثبت أن أهدى في حجة الوداع مائة بدنة نحر بيده منها ستين وأمر ببقيتها فنحرت وأخذ من كل بدنة بضعة فجمعت في قدر وطبخت وأكل منها وتحسى من المرقة وأن الدم الواجب به إنما هو نسك وليس بجبران لنقص أدخله في الإحرام ، ولما كان نسكا جاز الأكل منه كما يأكل من الأضاحي [ ص: 71 ] والتطوع . ويدل على القران أفضل من الإفراد قالت : يا رسول الله ما بال الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك ؟ فقال : إني سقت الهدي فلا أحل إلا يوم النحر ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرته ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة حفصة ، فلو كان هديه تطوعا لما منعه الإحلال ؛ لأن هدي التطوع لا يمنع الإحلال . فإن قيل : إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قارنا فقد كان إحرام الحج يمنعه الإحلال ، فلا تأثير للهدي في ذلك . قيل له : لم يكن إحرام الحج مانعا في ذلك الوقت من الإحلال قبل يوم النحر ؛ لأن أنه كان قارنا أن كان جائزا ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين أحرموا بالحج أن يتحللوا بعمل عمرة ، فكانوا في ذلك الوقت بمنزلة المتمتع الذي يحرم بالعمرة مفردا بها ، فلم يكن يمتنع الإحلال فيما بينها وبين إحرام الحج إلا أن يسوق الهدي فيمنعه ذلك من الإحلال ، وهذه كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم في قرانه وكان المانع له من الإحلال سوق الهدي دون إحرام الحج ، وفي ذلك دليل على صحة ما ذكرنا من أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم كان هدي القران لا التطوع ؛ إذ لا تأثير لهدي التطوع في المنع من الإحلال بحال . فسخ الحج
ويدل على أنه كان قارنا قوله صلى الله عليه وسلم : ، ويمتنع أن يخالف ما أمره به ربه . ورواية أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك وقال قل حجة وعمرة أن ابن عمر لا يعارض رواية من روى القران ، وذلك لأن راوي القران قد علم زيادة إحرام لم يعلمه الآخر فهو أولى ، وجائز أن يكون راوي الإفراد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج ولم يسمعه يذكر العمرة ، أو سمعه ذكر الحج دون العمرة وظن أنه مفرد ، إذ جائز لبيك اللهم لبيك لبيك بحجة دون العمرة وجائز أن يقول لبيك بعمرة وجائز أن يلبي بهما معا ، فلما كان ذلك سائغا وسمعه بعضهم يلبي بالحج وبعضهم سمعه يلبي بحج وعمرة كانت رواية من روى الزيادة أولى . وأيضا فإنه يحتمل أن يريد بقوله أفرد الحج أفعال الحج ، وأفاد أنه أفرد أفعال الحج وأفرد أفعال العمرة ولم يقتصر للإحرامين على فعل الحج دون العمرة ، وأبطل بذلك للقارن أن يقول . قول من يجيز لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا
وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين . الأكل من هدي القران والمتعة
وروى عن عطاء قال : " من كل الهدي يؤكل إلا ما كان من فداء أو جزاء أو نذر " . ابن عباس
وروى قال : " لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر ويؤكل مما سوى ذلك " . وروى عبيد الله بن عمر هشام عن الحسن قالا : " لا يؤكل من الهدي كله إلا الجزاء " . فهؤلاء الصحابة والتابعون قد أجازوا [ ص: 72 ] الأكل من دم القران والتمتع ، ولا نعلم أحدا من وعطاء السلف حظره .