الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط يعني والله أعلم : لا تبخل بالمنع من حقوقهم الواجبة لهم . وهذا مجاز ، ومراده ترك الإنفاق ، فيكون بمنزلة من يده مغلولة إلى عنقه فلا يعطي من ماله شيئا وذلك لأن العرب تصف البخيل بضيق اليد فتقول : فلان جعد الكفين ، إذا كان بخيلا ، وقصير الباع ويقولون في ضده : فلان رحب الذراع وطويل اليدين وقال النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه : أسرعكن بي لحاقا أطولكن يدا .

وإنما أراد كثرة الصدقة ، فكانت زينب بنت جحش لأنها كانت أكثرهن صدقة وقال الشاعر :

وما إن كان أكثرهم سواما ولكن كان أرحبهم ذراعا

قوله تعالى : ولا تبسطها كل البسط يعني : ولا تخرج جميع ما في يدك مع حاجتك وحاجة عيالك إليه فتقعد ملوما محسورا يعني : ذا حسرة على ما خرج من يدك . وهذا الخطاب لغير النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخر شيئا لغد وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه ، وقد كان كثير من فضلاء الصحابة ينفقون في سبيل الله جميع أملاكهم فلم يعنفهم النبي صلى الله عليه وسلم لصحة يقينهم وشدة بصائرهم ، وإنما نهى الله تعالى عن الإفراط في الإنفاق وإخراج جميع ما حوته يده من المال من خيف عليه الحسرة على ما خرج عن يده فأما من وثق بموعود الله وجزيل ثوابه فيما أنفقه فغير مراد بالآية وقد روي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة من ذهب فقال : يا رسول الله أصبت هذه من معدن والله ما أملك غيرها فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فعاد ثانيا فأعرض عنه ، فعاد ثالثا فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فرمى [ ص: 23 ] بها فلو أصابته لعقرته ، فقال : يأتيني أحدهم بجميع ما يملك ثم يقعد يتكفف الناس .

وروي أن رجلا دخل المسجد وعليه هيئة رثة والنبي صلى الله عليه وسلم على المنبر ، فأمر الرجل بأن يقوم فقام ، فطرح الناس ثيابا للصدقة فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم منها ثوبين ، ثم حث النبي صلى الله عليه وسلم الناس على الصدقة ، فطرح أحد ثوبيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : انظروا إلى هذا أمرته أن يقوم ليفطن له فيتصدق عليه فأعطيته ثوبين ثم قد طرح أحدهما ثم قال له : خذ ثوبك . فإنما منع أمثال هؤلاء من إخراج جميع أموالهم . فأما أهل البصائر فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يمنعهم من ذلك ، وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ذا مال كثير فأنفق جميع ماله على النبي صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله حتى بقي في عباءة فلم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر ذلك عليه . والدليل على أن ذلك ليس بمخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما خوطب به غيره قوله تعالى : فتقعد ملوما محسورا ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ممن يتحسر على إنفاق ما حوته يده في سبيل الله ، فثبت أن المراد غير النبي صلى الله عليه وسلم وهو نحو قوله تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره ، وقوله تعالى : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك لم يرد به النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يشك قط . فاقتضت هذه الآيات من قوله : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه الأمر بتوحيد الله والإحسان إلى الوالدين والتذلل لهما وطاعتهما وإعطاء ذي القربى والمساكين وابن السبيل حقوقهم والنهي عن تبذير المال وإنفاقه في معصية الله والأمر بالاقتصاد في الإنفاق والنهي عن الإفراط والتقصير في الإعطاء والمنع وتعليم ما يجيب به السائل والمسكين عند تعذر ما يعطي .

التالي السابق


الخدمات العلمية