وأما القسم الثاني - وهو دلائل هذه المسائل الأصولية - فإنه وإن كان يظن طوائف من المتكلمين أو المتفلسفة أن الشرع إنما يدل بطريق الخبر الصادق، فدلالته موقوفة على العلم بصدق المخبر، ويجعلون ما يبنى عليه صدق المخبر معقولات محضة - فقد غلطوا في ذلك غلطا عظيما، بل ضلوا ضلالا مبينا، في ظنهم أن دلالة الكتاب والسنة إنما هي بطريق الخبر المجرد، بل الأمر ما عليه سلف الأمة، أهل العلم والإيمان، من أن الله سبحانه وتعالي بين من الأدلة العقلية التي يحتاج إليها في العلم بذلك ما لا يقدر أحد من هؤلاء قدره، ونهاية ما يذكرونه جاء القرآن بخلاصته على أحسن وجه. [ ص: 29 ]
وذلك التي قال فيها: كالأمثال المضروبة التي يذكرها الله في كتابه ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل [الزمر: 27]، فإن الأمثال المضروبة هي الأقيسة العقلية، سواء كانت أو قياس تمثيل، ويدخل في ذلك ما يسمونه براهين، وهو القياس الشمولي المؤلف من المقدمات اليقينية، وإن كان لفظ البرهان في اللغة أعم من ذلك كما سمى الله آيتي قياس شمول، موسى برهانين: فذانك برهانان من ربك [القصص: 32].
ومما يوضح هذا أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياس شمولي تستوي فيه أفراده؛ فإن فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها. الله سبحانه ليس كمثله شيء،
ولهذا لما سلك طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية لم يصلوا بها إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم، وغلب عليهم - بعد التناهي - الحيرة والاضطراب، لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافئها، ولكن يستعمل في ذلك سواء كان تمثيلا أو شمولا، كما قال تعالى: قياس الأولى، ولله المثل الأعلى [النحل: 60] ، مثل أن يعلم أن كل كمال ثبت للممكن أو المحدث لا نقص فيه بوجه من الوجوه ـ وهو ما كان كمالا للموجود غير مستلزم للعدم ـ فالواجب القديم أولى به، وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت [ ص: 30 ] نوعه للمخلوق المربوب المعلول المدبر فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره، فهو أحق به منه، وأن كل نقص وعيب في نفسه - وهو ما تضمن سلب هذا الكمال إذا وجب نفيه عن شيء ما من أنواع المخلوقات والممكنات والمحدثات فإنه يجب نفيه عن الرب تبارك وتعالى بطريق الأولى، وأنه أحق بالأمور الوجودية من كل موجود، وأما العدمية فالممكن المحدث بها أحق، ونحو ذلك.