الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما أهل التحريف والتأويل فهم الذين يقولون: إن الأنبياء لم يقصدوا بهذه الأقوال إلا ما هو الحق في نفس الأمر، وإن الحق في نفس الأمر هو ما علمناه بعقولنا، ثم يجتهدون في تأويل هذه الأقوال إلى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات التي يحتاجون فيها إلى إخراج اللغات عن طريقتها المعروفة، وإلى الاستعانة بغرائب المجازات والاستعارات.

وهم في أكثر ما يتأولونه قد يعلم عقلاؤهم علما يقينا أن الأنبياء لم يريدوا بقولهم ما حملوه عليه، وهؤلاء كثيرا ما يجعلون التأويل من باب دفع المعارض، فيقصدون حمل اللفظ على ما يمكن أن يريده متكلم بلفظه، لا يقصدون طلب مراد المتكلم، وحمله على ما يناسب حاله، وكل تأويل لا يقصد به صاحبه بيان مراد المتكلم وتفسير كلامه بما يعرف به مراده، وعلى الوجه الذي به يعرف مراده، فصاحبه كاذب على من تأول كلامه، ولهذا كان أكثرهم لا يجزمون بالتأويل، بل يقولون: يجوز أن يراد كذا، وغاية ما معهم إمكان احتمال اللفظ.

وأما كون النبي المعين يجوز أن يريد ذلك المعنى بذلك اللفظ فغالبه يكون الأمر فيه بالعكس، ويعلم من سياق الكلام وحال المتكلم امتناع إرادته لذلك المعنى بذلك الخطاب المعين. [ ص: 13 ]

وفي الجملة، فهذه طريق خلق كثير من المتكلمين وغيرهم، وعليها بنى سائر المتكلمين المخالفين لبعض النصوص مذاهبهم من المعتزلة والكلابية والسالمية والكرامية والشيعة وغيرها. [ ص: 14 ]

وقد ذكرنا في غير موضع أن لفظ التأويل في القرآن يراد به ما يؤول الأمر إليه، وإن كان موافقا لمدلول اللفظ ومفهومه في الظاهر، ويراد به تفسير الكلام وبيان معناه، وإن كان موافقا له، وهو اصطلاح المفسرين المتقدمين كمجاهد وغيره، ويراد به صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى المرجوح لدليل يقترن بذلك.

وتخصيص لفظ التأويل بهذا المعنى إنما يوجد في كلام بعض المتأخرين فأما الصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين كالأئمة الأربعة وغيرهم فلا يخصون لفظ التأويل بهذا المعنى، بل يريدون بالتأويل المعنى الأول أو الثاني.

ولهذا لما ظن طائفة من المتأخرين أن لفظ التأويل في القرآن والحديث في مثل قوله تعالى: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [آل عمران: 7] أريد به هذا المعنى الاصطلاحي الخاص، واعتقدوا أن الوقف في الآية عند قوله: وما يعلم تأويله إلا الله لزم من ذلك أن يعتقدوا أن لهذه الآيات والأحاديث معاني تخالف مدلولها المفهوم منها، وأن ذلك المعنى المراد بها لا يعلمه إلا الله، لا يعلمه الملك الذي نزل بالقرآن، وهو جبريل، ولا يعلمه محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره من الأنبياء، [ ص: 15 ] ولا تعلمه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يقرأ قوله تعالى: الرحمن على العرش استوى [سورة طه: 5]، وقوله: إليه يصعد الكلم الطيب [سورة فاطر: 10]، وقوله بل يداه مبسوطتان [سورة المائدة: 64]، وغير ذلك من آيات الصفات، بل ويقول: «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا». ونحو ذلك، وهو لا يعرف معاني هذه الأقوال، بل معناها الذي دلت عليه لا يعلمه إلا الله، ويظنون أن هذه طريقة السلف.

التالي السابق


الخدمات العلمية