والكتابة في حكم اللسان ، بل فيها الإيذاء من اليد واللسان كليهما .
وتخصيص المسلمين ، وقع اعتبارا بالأغلب; لأن أهل الذمة المطيعين للإسلام داخلون في هذا الحكم .
وفي رواية : ابن حبان ، كذا ذكر «من سلم الناس» السيوطي ، وهو يعم المسلم والذمي .
وعلى كل تقدير ، المراد : ترك الإيذاء باطلا ، وإلا ، يجوز كل ما ورد به الشرع من الزجر والضرب والشتم ، بل يجب ذلك في بعض المواضع .
أبي حكم شرع آب خوردن خطاست وكرخون بفتوى بريزي روا ست
والمقصود : أن صفة المسلم ألا يؤذي مسلما . وينبغي أن يكون المسلم على هذه الصفة ، وأن من ليس على هذا الوصف ليس بمسلم .
[ ص: 117 ] ليس المراد بهذا : أن من فيه هذه الصفة هو مسلم كامل ، وإن كان في سائر الأحكام وباقي أركان الدين قاصرا ، كما قيل :
مباش دربي آزار و ، رجه خوا ، ي كن كهدر شريعت ما غيرا زين كنا ، ى نيست
وفي الحقيقة ، المراد : أن من يؤدي حقوق الخلق بعد أداء حقوق الخالق ، فهو المسلم الكامل . انتهى .
تناقض الحنفية في إثبات الزيادة والنقصان للإيمان ونفيهما عنه
قلت : تقييد أمثال هذا الحديث بالإيمان الكامل ، والإسلام الكامل ، كما يقع من كثير من علماء الحنفية - رحمهم الله تعالى - دليل واضح على أن الإيمان يكون كاملا وناقصا ، وهذا هو المراد بقول غيرهم : «الإيمان يزيد وينقص» .
وهذا موضع العجب من القائلين بهذا القول ، فإنهم ينفون زيادة الإيمان ونقصانه في العقائد والأصول ، ويقيدون الآيات والأحاديث الواردة بذلك في كل موضع من حيث لا يشعرون ، فكان هذا من قبيل المثل السائر : «رمتني بدائها وانسلت» .
. قال في الترجمة : أي : المؤمن الكامل : هو الذي أمن الناس من تصرفه في الدماء والأموال بالباطل الذي لم يأت به الشرع . «والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم»
قال : وظاهر الحديث يوهم تغاير الإسلام والإيمان ، والمسلم والمؤمن ، واختلاف حكمهما .
ولكن المراد بهما هاهنا شيء واحد ، والجملة الثانية مؤكدة مقررة للأولى .
رتب على الإسلام سلامة الناس ، وعلى الإيمان أمن الناس ، تفننا ، ورعاية للمناسبة .
[ ص: 118 ] واقتصر في الثاني على معاصي اليد ، ولم يذكر معاصي اللسان; لأن آفة اللسان ظاهر شائع ، لا تحتاج إلى التكرار والتذكار ، وآفة اليد محتاجة إلى البيان والتقرير . كذا ذكر الطيبي .
ويمكن أن يقال : لما كان ، وعمل القلب أقوى وأكمل من الإسلام الذي هو الانقياد والاستسلام في الظاهر ، خصص الإيمان بالأمن الذي هو أقوى من السلامة; لأن فيها عدم إصابة الضرر مع توهم إصابته واحتماله ، وفي الأمر قطع هذا التوهم والاحتمال مطلقا . الإيمان الذي هو عبارة عن التصديق
وأيضا ليس الأمن والخوف في الدماء والأموال يختص باليد ، بل فيه دخل اللسان أيضا ، بالسعاية والنميمة وغيرهما .
ولم يذكر الأعراض مع الدماء وغيرها ، اكتفاء بذكر الدماء; فإنها في حكمها ، فافهم . وبالله التوفيق .
رواه ، الترمذي ، وزاد والنسائي في «شعب الإيمان» برواية فضالة : البيهقي
والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله» .
قال في الترجمة : أي : المجاهد الحقيقي الكامل : من يقاتل مع نفسه الأبية الأمارة بالسوء ، فيأسره ويجره إلى طاعة الله ورسوله بالقهر والمجاهدة :
سل شيرى دان كه صفها بشكند شيرآن باشدكه خودرا بشكند
صغائرها وكبائرها ، عمدها ، وخطأها . «والمهاجر : من هجر الخطايا والذنوب»
قال في الترجمة : الهجرة في الشرع بمعنى : الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام ، والفرار من فتنة الدين ، وهذا هو الهجرة الظاهرة .
وأما الهجرة الباطنة ، فهي الخروج من الطبيعة ، ومما تدعو إليه النفس والشيطان ، والفرار منه وتركه .
[ ص: 119 ] وفي الحقيقة شرعت الهجرة لهذا الغرض . ومن حصل منه هذا ، فهو مهاجر في المعنى ، وإن كان في الوطن ، إلا أن تجب صورة الهجرة وظاهرها كما اتفق في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنها وجبت على المسلمين من «مكة» إلى «المدينة» .
والمقصود من هذا الحديث : حث وترغيب المهاجرين في ترك المناهي; لئلا يكتفوا بمجرد الاسم والصورة ، ويغتروا بها ، أو تسلية لهم ، بأنهم لما لم يجدوا صورة الهجرة ، وجدوا ثوابها بترك المنهيات . انتهى .
قلت : ويشترط في الهجرة الظاهرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ، أمن المهجر ، حتى يعبد الله جهارا ، ويتبع الكتاب والسنة بلا نكر عليه .
وكذلك ينبغي أن يكون في الهجرة المعنوية أمن القلب من الوقوع في الموبقات ، باعتمال الحسنات ، وترك السيئات .
وفي حديث ، يرفعه : ابن عمرو ، وهذا لفظ «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» . البخاري
: ولمسلم . أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أي المسلمين خير؟ قال : «من سلم المسلمون من لسانه ويده»
وعن - رضي الله عنه ، قال : أنس ; أي : على طريق اليقين بأن غدر في العهد واليمين . قلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا وقال : «لا إيمان» ; أي : على وجه الكمال «لمن لا أمانة له» ; أي : في النفس والأهل والمال ، «ولا دين لمن لا عهد له»
قال في «المرقاة» : هذا الكلام وأمثاله وعيد لا يراد به الانقطاع ، بل الزجر ، ونفي الفضيلة دون الحقيقة . انتهى . رواه في شعب الإيمان» . البيهقي
قال في الترجمة : الظاهر أن : معناها المتعارف; من حفظ الأموال والمجالس ، وترك الخيانة . وبالعهد : حفظ الإقرار ، وصدق الوعد . المراد بالأمانة
ففي الإيمان والدين تغليظ وتشديد ، والمراد بهما : الدين والإيمان الكاملان .
[ ص: 120 ] وإن أريد بالأمانة : التكاليف الشرعية التي هي منطوقة في قوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة [الأحزاب : 72] ، وبالعهد : عهد الميثاق في يوم الثقة قال تعالى : ألست بربكم قالوا بلى [الأعراف : 172] ، فلا إشكال ، فإن ذلك يشمل تمام الدين والإيمان ، فروعا وأصولا .
وعلى هذا ، فالتكرير والتأكيد في الكلام للتحقيق والتقرير ، والله أعلم .
انتهى .
قلت : وعندي : الأول هو الأولى ، والثاني فيه بعد .
وعلى كل حال ، الحديث دال على أن ، وأن المحروم منهما محروم من حلاوة الإسلام ، ورفعها من علامات الساعة ، وأشراط القيامة ، كما في أحاديث أخرى . حفظ الأمانة ، والوفاء بالعهد ، من صفات الإيمان
وعن جابر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رواه «ثنتان موجبتان» ، قال رجل : يا رسول الله! ما الموجبتان؟ قال : «من مات يشرك بالله شيئا ، دخل النار ، ومن مات لا يشرك بالله شيئا ، دخل الجنة» . مسلم
تقدم شرح هذا الحديث في الحصة الأولى من هذا الكتاب ، وفيه دلالة على ، وكون الموحد في الجنة على الإطلاق . كون المشرك في النار
فتحصل من هذا : أن المشرك - وإن كان في أعلى رتبة من العبادة والطاعة ، والخيرات والحسنات - ، فعاقبته جهنم ، وضاع كل ما أتى به وجهد فيه كما قال تعالى :
عاملة ناصبة [الغاشية : 3] ، وأن الموحد - وإن كان عاصيا مرتكبا للكبائر - فعاقبته الجنة - إن شاء الله تعالى -; كما قال سبحانه : ويعفو عن كثير [الشورى : 30] ، وما أعظم هذه البشارة! اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا والآخرة .
وعن : أبي أمامة . أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الإيمان؟ قال : «إذا سرتك حسنتك ، وساءتك سيئتك ، فأنت مؤمن»
[ ص: 121 ] أي : إيمانك صحيح; لأن هذه علامة وجود التصديق واليقين بالله وأحكامه ، وأمارة الإيمان باليوم الآخر وجزاء الأعمال .