الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الأحاديث النبوية الدالة على أن الله قضى لأهل الجنة بالجنة وأهل النار بالنار وهم في عالم الذر

وعن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «خلق الله آدم حين خلقه ، فضرب كتفه اليمنى» .

قال في الترجمة : أي : ضرب بيد قدرته ، أو أمر ملكا بأن يضرب يمين آدم - عليه السلام - . انتهى .

وأقول : تأويل اليد واليمين بالقدرة خلاف ظاهر الكتاب والسنة .

والحق : إمرار مثل ذلك على ما جاء ، مع الإيمان به على مراد الله ، «فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر» . قال في القاموس : الذر : صغار النمل ، وفي بعض النسخ : «الدر» - بالدال المهملة - ، وهو يناسب البياض ، ولكن الأول أولى . والمراد به : بيان المقدار ، «وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم» جمع حممة ، وهي الفحم ، «فقال للذي في يمينه : إلى الجنة» ; أي : اذهبوا إليها .

[ ص: 173 ] أو خطاب للملائكة أن هذه الفرقة تذهب إلى الجنة وتدخلها ، أو اذهبوا بهم إليها ، «ولا أبالي» ; أي : لا مبالاة في الحكم بدخولهم الجنة من قبل أن يصدر عنهم الأعمال; لأني مالك متصرف مطلقا ، أفعل ما أشاء ، وأحكم ما أريد .

«وقال للذي في كتفه اليسرى : إلى النار» ; أي : اذهبوا إليها ، ونعوذ بالله منها ، «ولا أبالي» فيما حكمت وقضيت وقدرت في حقهم من دخول النار; لأن الملك ملكي ، والعباد عبيدي . رواه أحمد .

وفي الحديث إيماء إلى أنه لا يجب على الله شيء ، وأن القدر قد سبق ، والقضاء قد مضى ، وتعين الفرقة الناجية والطائفة الهالكة . اللهم اغفر لعبدك هذا ولا تبال ، فإنك ذو الإكرام والجمال .

وفي حديث أبي نضرة في قصة أبي عبد الله - رجل من الصحابة - يرفعه : ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن الله - عز وجل - قبض بيمينه قبضة ، وأخرى باليد الأخرى ، وقال : هذه لهذه ، وهذه لهذه ، ولا أبالي» ، ولا أدري في أي القبضتين أنا . رواه أحمد .

قال في الترجمة : يعني : وإن بشرت من حضرة النبوة بسلامة الإيمان ودخول الجنان ، ولكن الله سبحانه غني عن العالمين ، قادر على كل شيء ، يفعل ما يشاء .

وقد قال : «هذه لهذه ، وهذه لهذه ، ولا أبالي» ; أي : هذه الجماعة التي في اليمنى للجنة ، وتلك التي في اليسرى للنار ، ولست بمبال .

ولا يليق بأحد أن يقول : لم فعلت ؟ وكيف فعلت ؟ فهذا الخوف لا يزول من قلبي ، وهو الموجب لبكائي .

قال بعض العرفاء : إن الأمن والاطمئنان - وإن حصل لنا بمقتضى صدق وعده ، وبشارة الشارع ، ولكن خوف «لا أبالي» لا يضع الرجل من ساحة الصدر خارجة .

[ ص: 174 ] وعلى هذا يبتنى تمني الصحابة بـ «يا ليت كذا وكذا» مع وجود البشارة .

قال بعضهم : يا ليت كنت غنما يذبح ويؤكل ويخرج . وقال الآخر : يا ليت كنت كلأ ، أو ترابا .

وقال غيرهما : يا ليتني كنت شجرة تعضد . ولهذا الكلام تحقيق وبيان ذكرته في رسالة «تسلية المصاب» . انتهى .

قلت : وحاصل حديث الباب : أن المؤمن ينبغي له أن يكون إيمانه بين الخوف والرجاء ، وأن الخوف في العيش أجدى ، والرجاء عند الأجل أحرى .

فمتى هو في الحياة ، فعليه أن يخاف الله تعالى; فإن الخوف يمنع من معاصي الله ، وإذا قرب من الممات ، فعليه أن يرجو; فإن الرجاء في هذه الحالة أنفع ، كما في الحديث الصحيح : «أنا عند ظن عبدي بي» .

وقد صرح أهل العلم بوجوب حسن الظن بالله تعالى ، أو استحبابه عند الانتقال من دار الزوال إلى دار البقاء . اللهم ارزقنا .

وعن عائشة - رضي الله عنها - ، قالت : دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار; أي : ليصلي عليها ، والجنازة - بكسر الجيم وفتحها - ، وقيل : الأول بمعنى الميت ، والآخر بمعنى سريره ، أو العكس . فقلت : يا رسول الله! طوبى لهذا; أي : طيب العيش له ، عصفور من عصافير أهل الجنة; أي : هو مثله من حيث إنه لا ذنب عليه ، وينزل في الجنة حيث شاء .

أطلقت عليه لفظة العصفور; لصغر سنه ، وحداثة عمره ، وحكمت عليه بالجنة; لكونه مغفورا له في اعتقادها ، لم يعمل السوء ، ولم يدركه .

فقال : «أوغير ذلك» روى لفظ «أو» - بفتح الواو وبسكونها - والمعنى - على الفتح - : أوقع كما قلت : إنه من أهل الجنة ؟ والحال أن الواقع خلاف ما قلت من أنه ليس من أهلها .

[ ص: 175 ] وأما على السكون - ، فالمعنى : أواقع ما تقولين ؟ أو الواقع غير ذلك ؟ ويمكن أن يكون «أو» بمعنى «بل» ; أي : بل الواقع غير ما قلت . والمقصود : أنه لا ينبغي الجزم بقوله من أهل الجنة .

ثم بين صلى الله عليه وسلم وجه ذلك ، فقال : «يا عائشة! إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم» .

قال في الترجمة : ظاهر هذا الحديث : أن الدخول في الجنة وفي النار ليس منوطا ومربوطا بالعمل الحسن والعمل السيئ ، بل بمحض تقدير القادر العزيز ، وقضاء القدير الكريم ، وأنه تعالى خلق بعض خلقه للجنة ، سواء عمل عملا صالحا ، أو لا ، وخلق بعضه للنار ، سواء عمل سوءا ، أو لم يعمل .

فهذا الصبي إن كان الله خلقه للنار ، فإنه يدخله ، وإن كان لم يعمل السوء ، بل لم يدركه ، فكيف جزمت بأنه من أهل الجنة ؟

هذا ، ولكن الذي علم من ضروريات الدين بنص الكتاب والسنة ، وإجماع أهل الدين عليه : هو أن أطفال المسلمين في الجنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية