الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذم التقليد

والحديث دليل على ذم الخلف المبتدعين المحدثين وأفعالهم وأقوالهم ، ومدح السابقين السالفين المتبعين الصالحين .

وفيه إشارة إلى حدوث المحدثات ، وشر الأمور ، والبدع المنكرات بعد القرون الثلاثة ، المشهود لها بالخير .

ومن جملة هذه البدع : تقليد الرجال ، وترك النصوص ، والتمسك بالفقه المصطلح عليه اليوم ، ورفض الاتباع للكتاب والاعتصام بالسنة ، وهذا مشاهد في هذه الأمة منذ زمن طويل عريض .

[ ص: 29 ] وقد حدثت بعض هذه البدع في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم بالإحسان ، فما ظنك بأزمان بعده؟ وبالله التوفيق ، وهو المستعان .

وعن العرباض بن سارية ، قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، ثم أقبل علينا بوجهه ، فوعظنا موعظة بليغة : وصل مدلولها إلى المقصود ، والبليغ : ما تصل عبارته إلى الضمير . «ذرفت منها العيون; أي : دمعت .

و «الذرف» : جري الدمع من العين . ووجلت منها القلوب; أي خافت :

و «الوجل» : الخوف ، والمراد : تأثيرها في النفوس .

فقال رجل : يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع - بالإضافة - فإن المودع - بكسر الدال - عند الوداع لا يترك شيئا مما يهم المودع - بفتح الدال - أي : كأنك تودعنا بها .

قاله لما رأى من مبالغته صلى الله عليه وسلم في الموعظة . فأوصنا; أي : إذا كان الأمر كذلك ، فمرنا بما فيه كمال صلاحنا وتمام فلاحنا .

فقال : «أوصيكم بتقوى الله» هذا من جوامع الكلم; لأن التقوى امتثال المأمورات ، واجتناب المنهيات ، «والسمع والطاعة» ; أي : قبول حكم الأمراء وإطاعتهم فيما يوافق الشرع; لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ولكن لا يجوز محاربته ، وإن كان عبدا حبشيا» قيل : هذا مبالغة في إطاعة الأمراء ، وولاة الأمور; لأن من شرائط الإمارة الحرية ، وهذا كما في حديث آخر : «من بنى مسجدا لله ، بنى الله له بيتا في الجنة ، وإن كان كمفحص قطاة» أو كما قال .

أو المراد : أن يكون العبد نائب السلطان ، فيجب طاعته بأمره .

ويحتمل أن يكون المعنى : إذا تسلط عبد حبشي حقير ذليل على مملكة ، لا يجوز المحاربة معه ، بل يجب سمعه وطاعته; لأنه لا يجوز تأمير العبيد ابتداء من أهل الحل والعقد ، بل لا بد من أن يختاروا لها قرشيا متصفا بأوصاف الإمامة .

وفي هذا الباب كتاب «إكليل الكرامة» .

[ ص: 30 ] قال علي القاري في «المرقاة» : معناه : إن كان المطاع (يعني : من ولاه الإمام عليكم) عبدا حبشيا ، فأطيعوه ، ولا تنظروا إلى نسبه ، بل اتبعوه على حسبه .

قيل هذا على سبيل المثل ، إذ لا تصح خلافته; لقوله صلى الله عليه وسلم : «الأئمة من قريش» .

قلت : لكن تصح إمارته مطلقا ، وكذا خلافته تسلطا كما هو في زماننا في جميع البلدان . انتهى .

وأقول : ولي كثير من العبيد وأرقاء الملوك ، على كثير من الممالك الإسلامية قديما وحديثا ، كما يشهد لذلك كتب التواريخ ، وأطاعهم العلماء والعامة تبعا لهذا الحديث ، ويقع مثله في أكثر الرياسات والممالك ، من جهة ولاة الأمور .

«فإنه من يعش منكم بعدي ، فسيرى اختلافا كثيرا» في الناس ، يذهب كل واحد منهم إلى مذهب ، ويكرع كل واحد من مشرب ، ويقع تباين الآراء ، وتضاد الأهواء في ولاة الأمور وأهل العلم المشهور .

وهذا علم من أعلام النبوة ، فإنه وقع كما أخبر ، ووجد مصداقه من بعد القرون المشهود لها بالخير ، كما دلت عليه السين) .

وفي إطاعة الأمراء وسمعهم أمن من الفتنة التي تنشأ من اختلاف الناس .

ثم أشار إلى حفظ التقوى في الدين ، وقال : «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين» .

الرشد . والرشاد : خلاف الغي .

والمراد بهؤلاء : الخلفاء الأربعة ، ومن هو على سيرتهم ، وعامل بالسنة ، لا من يذهب مع هوى نفسه ويحدث البدع . وسنة الخلفاء هي - في الحقيقة - سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، التي لم تكن اشتهرت في زمنه صلى الله عليه وسلم ، ثم راجت بعد زمان في عصر هؤلاء ، وأضيفت إليهم .

[ ص: 31 ] فلما كانت هذه الإضافة مظنة أن يزعم أحد أنها بدعة ، ويردها ، أو ينكرها ، وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعها .

قال في «أشعة اللمعات» : وعلى هذا فكل ما حكم به الخلفاء الراشدون - وإن كان اجتهادا منهم ، أو قياسا - هو موافق للسنة ، ولا يجوز إطلاق البدعة عليه كما تقول: الفرقة الزائغة . انتهى .

وفي هذا نظر; لأن الخلفاء أنفسهم أطلقوا على اجتهادهم وقياسهم لفظ : البدعة .

هذا عمر الفاروق - رضي الله عنه - أطلق على صلاة التراويح في ليالي رمضان ، أنها نعمت البدعة .

فكل اجتهاد وقياس منهم يخالف السنة الصحيحة ، لا ينبغي أن يتمسك به .

قال في «سبل السلام» : ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة بطريقته صلى الله عليه وسلم من جهاد الأعداء ، وتقوية شعائر الدين ونحوها; فإن الحديث عام لكل خليفة راشد ، ولا يخص الشيخين .

ومعلوم من قواعد الشريعة : أنه ليس لخليفة راشد أن يشرع طريقة غير ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم .

ثم إن هذا عمر نفسه الخليفة الراشد سمى ما رآه من تجميع صلاته ليالي رمضان : بدعة ، ولم يقل : إنها سنة . فتأمل .

على أن الصحابة خالفوا الشيخين في مواضع ومسائل ، فدل أنهم لم يحملوا الحديث على أن ما قالوه أو فعلوه حجة .

وقد حقق البرماوي الكلام في «شرح ألفيته في أصول الفقه» ، وقال : إنما الحديث يدل على أنهم إذا اتفقوا على قول ، كان حجة ، لا إذا انفرد واحد منهم أو منهما .

[ ص: 32 ] وفي حديث آخر : «اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر ، وعمر» أخرجه الترمذي وحسنه ، وأحمد ، وابن ماجه ، وابن حبان ، وله طرق فيها مقال ، إلا أنه يقوي بعضها بعضا .

قال : والتحقيق أن الاقتداء ليس هو التقليد ، بل هو غيره ، كما حققناه في شرح «نظم الكافل» في بحث الإجماع . انتهى كلام السبل .

«تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ» جمع ناجذة - بالذال المعجمة - قيل : هو الضرس الأخير ، وقيل : هو مرادف السن ، وقيل : بمعنى مطلق الأنياب .

وعلى كل حال هو كناية عن شدة ملازمة السنة والتمسك بها «وإياكم ومحدثات الأمور» التي لم تكن في عصر النبوة ، ولا في زمن الخلفاء الراشدين «فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة» هاتان الكليتان على إطلاقهما ، وهما تعمان كل فرد من المحدثات ، وكل حقير وكبير من البدعات لا دليل على تخصيص شيء منها .

وفيه رد على القائل بتقسيم البدعة إلى أقسام ، وهو نص في محل النزاع عند من يدرك مدارك الشرع ، ويعلم بكيفية الاستدلال .

وأما من نشأ على التقليد ، وليس له حلاوة الإيمان وذوق الاتباع المأمور به ، فلا يكفيه ألف دليل . رواه أحمد ، وأبو داود والترمذي ، وابن ماجه . إلا أنهم لم يذكروا الصلاة; أي : لم يوردوا أول الحديث .

وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه ، قال : خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ، ثم قال : «هذا سبيل الله» ; أي : هذا الخط المستقيم الذي خطته هو دين الله القويم الذي لا اعوجاج فيه . ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال : «هذه سبل ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» .

[ ص: 33 ] وقرأ : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه
الآية ، وهي قوله : ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله

والمراد بالسبل : الأديان المختلفة ، والطرق الزائغة ، ومحدثات الأمور ، وبدعات القبور ونحوها ، مما لم يجئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم ينزل الله به من سلطان .

والحديث تفسير لقوله تعالى : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [الفاتحة : 6 - 7] . فتقرر بهذا : أن سبيل الله ، والصراط المستقيم ، هو اتباع ظواهر القرآن والحديث وصرائحهما ، وأن ما خالفهما - كائنا ما كان - فهو من سبل الشيطان . رواه أحمد ، والنسائي ، والدارمي .

قال في «أشعة اللمعات» : اعلم أن في هذا الحديث وما ورد في معناه في كتب الأحاديث ، لم يأت عدد هذه الخطوط إلا في «تفسير المدارك» ; فإنه روى في تفسير هذه الآية حديثا معناه : أنه صلى الله عليه وسلم خط خطا مستويا ، وقال : «هذا سبيل الرشد وسبيل الله ، اتبعوه» . ثم خط في كل جانب منه ستة خطوط مائلة ، وقال : «هذه سبل ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ، فاجتنبوه» ، وقرأ الآية .

قال : ثم يصير كل خط من هذه الخطوط الاثني عشر ستة خطوط ، فتكون السبل ثنتين وسبعين سبيلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية