فمن ذلك: أن من سب الدهر، فقد آذى الله، قال الله تعالى: وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر [الجاثية: 24].
قال ابن كثير في تفسيره: يخبر تعالى عن دهرية الكفار، ومن وافقهم من [ ص: 504 ] مشركي العرب في إنكار المعاد، وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا إلخ". ما ثم إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخر، وما ثم معاد ولا قيامة.
وهذا يقوله مشركو العرب، والمنكرون للمعاد، ويقوله الفلاسفة الدهرية المنكرون للصانع، المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى، وكابروا المعقول، وكذبوا المنقول؛ ولهذا قالوا: وما يهلكنا إلا الدهر ، قال سبحانه: وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون [الجاثية: 24]؛ أي: يتوهمون، ويتخيلون.
وأما الحديث الذي أخرجه في "الصحيح"، ورواه أبو داود، عن والنسائي يرفعه: أبي هريرة وفي رواية: "يقول الله: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار"، وفي أخرى: "لا تسبوا الدهر؛ فإني أنا الدهر"، "يقول ابن آدم: يا خيبة الدهر! وإني أنا الدهر، أرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما".
قال في "شرح السنة": حديث متفق على صحته، أخرجاه من طريق معمر من أوجه عنه - رضي الله عنه -.
ومعناه: أن لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد، سبوا فاعلها، فكان مرجع سبها إلى الله - عز وجل -، إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يصنعونها، فنهوا عن سب الدهر. انتهى باختصار. العرب كانت من شأنها ذم الدهر وسبه عند النوازل؛
وقد أورده بسياق غريب جدا بهذا الطريق، وقال: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، وهو الذي يهلكنا ويميتنا. ابن جرير
فقال الله في كتابه الآية المتقدمة. ويسبون الدهر، فقال - عز وجل -: الحديث. وروى "يؤذيني ابن آدم..." ابن حاتم عن مثله. ابن عيينة
[ ص: 505 ] ثم روي عن مرفوعا: أبي هريرة وأخرجه "يقول الله: يسب ابن آدم الدهر، وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار"، محمد بن إسحق عنه يرفعه: "يقول الله - عز وجل -: استقرضت عبدي فلم يعطني، وسبني عبدي وا دهراه! وأنا الدهر".
قال الشافعي، وأبو عبيد، وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله: كانت العرب في جاهليتها، إذا أصابتهم شدة، أو بلاء، أو ملامة، قالوا: يا خيبة الدهر ! فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر، ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله، فكأنهم إنما سبوا الله سبحانه؛ لأنه فاعل ذلك في الحقيقة. "لا تسبوا الدهر":
فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار؛ لأن الله هو الذي يعنونه، ويسندون إليه تلك الأفعال.
هذا أحسن ما قيل في تفسيره، وهو المراد، والله أعلم.
وقد غلط ومن نحا نحوه من ابن حزم، الظاهرية، في عد الدهر من الأسماء الحسنى؛ أخذا من هذا الحديث. انتهى.
قلت: ولم يغلط، بل أخذ اسم الدهر منه يصح؛ لأن الحديث صحيح.
نعم إدخاله في الأسماء الحسنى ليس كما ينبغي؛ لأن تلك الأسماء لم تصح رفعا، وعلى هذا لا مانع من إدخاله أيضا فيها.
ومعنى تقليب الليل والنهار: أن ما يجري فيهما من خير وشر، فهو بإرادة الله وتدبيره، بعلم منه سبحانه وحكمة، لا يشاركه في ذلك غيره، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
ونسبة الفعل إلى الدهر وسبه كثير في أشعار المولدين؛ كابن المعتز، والمتنبي، وغيرهما، قال بعضهم:
إن الليالي للأنام منازل تطوى وتنشر بينها الأعمار فقصارهن مع الهموم طويلة
وطوالهن مع الشرور قصار
عمر كر خوش كذرد زندكى خضركم ست وربنا خوش كرزدنيم نفس بسيارت
[ ص: 506 ] وقال الآخر:
أعوام وصل كاد ينسي طيبها ذكر النوى فكأنها أيام
ثم انبرت أيام هجر أعقبت نحوي أسى فكأنها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام
ومن الشعراء من ينسب الحوادث إلى الفلك والسماء، ويسبه.
ومنهم من يشكو الزمان ويشتمه، وهو في حكم سب الدهر؛ لأن الأفلاك، والسموات والأزمنة، ليس إليها شيء، إنما الفاعل للكل، هو الله سبحانه.
فسبهن وشتمهن يرجع إلى الفاعل، ونعوذ بالله من كيادة الشيطان، كادهم في الإسلام بما لا يسبق إلى أذهانهم أنه سب له. تعالى شأنه عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
ولا شك أن سب كل شيء من الكائنات، وإضافة السب إليها يؤول إلى الصانع القديم.
فإياك أن تقلد هؤلاء الدهرية المنكرة للمعاد، ومنهم "النيفيرية" في هذه البلاد، وإياك أن تهلك فيمن هلكوا، بسباب الزمن والفلك ونحوهما.
سلمنا أن اعتقاد القائلين بهذه الأشعار ليس كذلك.
ولكن أي حاجة تدعو إلى تلك المحاورة الملعونة الآيلة إلى إساءة الأدب بحضرة الباري - جل جلاله، وعظم نواله ؟!
أليس الإيمان بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، ينوب عن التقول بهذه الأقوال السخيفة المحرمة؟!
ومنهم من يسب الدهر في تكلمه، نثرا، ويشتم في هذا الشكل الرب تعالى، وهو لا يدري ماذا قال، وفي أي هوة وقع من الكفر والضلال؟! تحسبونه هينا وهو عند الله عظيم.