الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن هذا الجنس ما حكاه صاحب النبلاء"، عن محمد بن سيرين - رحمه الله -: أنه اشترى زيتا ليتجر به بأربعين ألف درهم، فوجد في زق منه فأرة، فظن أنها وقعت في المعصرة، فأراق الزيت كله، ولم ينتفع بشيء منه.

وروي عنه أيضا: أنه اشترى شيئا، فأشرف فيه على ربح بمئتي ألف درهم، فعرض في قلبه شيء، فتركه.

قال هشام: ما هو - والله - بربا.

ومثله ما يروى عن بعض الأئمة من أهل البيت - رضي الله عنهم -: أنه كان له دجاج، فمر بهن حب لبيت المال، فانتثر منه شيء يسير، فثابت إليه الدجاج، فأكلت منه حبات، فأخرجها - رضي الله عنه - عن ملكه، وجعلها بيت مال.

وهذا الإمام هو المؤيد بالله أحمد بن الحسين بن هارون - رحمه الله -.

ويروى عنه أيضا: أنه كان ينظر في بعض الأمور المتعلقة ببيت المال في ضوء الشمعة، فجاءت امرأته في تلك الحال، فأطفأ الشمعة، ففطنت المرأة أنه كره النظر إليها، فأخبرها أن الشمعة لبيت المال، وأنه إنما ينظر بها ما كان من الأشغال يختص ببيت المال، ولا يجوز له أن ينظر بها إلى وجه امرأته.

وكذلك روي عنه: أنه كان يكتب الأمور المتعلقة ببيت المال في دروج، ويغرم لبيت المال ما يبقى من البياض بين السطور بقدره، ويسلم قيمته.

[ ص: 522 ] ويحكى عن النووي - رحمه الله -: أنه كان لا يأكل من ثمرات "دمشق"، فقيل له في ذلك، فقال: إنها كانت في الأيام القديمة بأيدي جماعة من الظلمة، ولا يدري كيف كان دخولها إليهم، وخروجها عنهم، أو نحو هذه العبارة.

وبالجملة: فالسلف قد كان لهم في الورع مسالك، يعجز عن سلوكها الخلق.

وقد أرشد الشارع إلى ذلك، فقال: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" أخرجه الترمذي، والحاكم، وابن حبان، من حديث الحسن السبط - رضي الله عنه -، وصححوه جميعا.

وحديث: "استفت قلبك، وإن أفتاك المفتون" أخرجه أحمد، وأبو يعلى، والطبراني، وأبو نعيم، من حديث وابصة مرفوعا.

وفي الباب عن واثلة، والنواس، وغيرهما.

وحديث: "ازهد في الدنيا، يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" أخرجه ابن ماجه، والحاكم، وصححه من حديث سهل بن سعد مرفوعا.

وأخرجه أبو نعيم من حديث أنس، ورجاله ثقات.

ومن ذلك حديث: "الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس"، وهو معروف.

ولو لم يرد إلا حديث "الشبهات" المسؤول عنها، فإنه قد شمل ما لا يحتاج معه إلى غيره في هذا الباب.

ولهذا أعظم العلماء أمر هذا الحديث، فعدوه رابع أربعة تدور عليها الأحكام؛ كما نقل عن أبي داود وغيره، وقد جمعها من قال:


عمدة الدين عندنا كلمات مسندات من قول خير البريه     اترك الشبهات وازهد ودع ما
ليس يعنيك واعملن بنيه



والإشارة بقوله: "ازهد" إلى الحديث المذكور قريبا، وكذلك قوله: "ودع [ ص: 523 ] ما ليس يعنيك" أراد به الحديث المشهور بلفظ: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".

وأشار بقوله: "واعملن بنية" إلى حديث: "إنما الأعمال بالنيات".

والمشهور عند أبي داود: أنه عد حديث: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه"، مكان حديث: "ازهد" المذكور.

وعد حديث: "الشبهات" بعضهم ثالث ثلاثة، وحذف الثاني.

وأشار ابن العربي إلى أنه يمكن أن ينتزع من الحديث - الذي نحن بصدد الكلام عليه - جميع الأحكام.

قال القرطبي: لأنه اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره، وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب.

فمن هنا يمكن أن يرد جميع الأحكام إليه.

فعرفت - مما أسلفنا -: أن الورع الذي يعد الوقوف عنده زهدا واتقاء للشبهة، ليس هو ترك جميع المباحات؛ لأنها من الحلال المطلق، بل ترك ما كان منها مدخلا للحرام، ومدرجا للآثام، كالصورة التي قدمناها وما يشابهها، لا ما كان ليس كذلك، فلا وجه لجعله شبهة.

وأما المكروه، فجميعه شبهة؛ لأنه لم يأت عن الشارع أنه الحلال البين، ولا أنه الحرام البين، بل هو واسطة بينهما، وهو أخف شيء بإجراء اسم الشبهات عليه.

والمجتهد يعرفه بالأدلة؛ كالنهي الذي ورد ما يصرفه عن معناه الحقيقي إلى معناه المجازي.

وكذلك ما تركه صلى الله عليه وسلم وأظهر تركه، ولم يبين أنه حلال ولا حرام. ويدخل تحت هذا كثير من الأقسام. ومن جملة ما يصلح لتفسير الشبهات: ما لم يتبين أنه مباح، بل حصل الشك [ ص: 524 ] فيه، لا لتعارض الأدلة، ولا لاختلاف أقوال العلماء، بل لمجرد التردد، هل سكت عنه صلى الله عليه وسلم، أو بينه؟

ومن جملة ما يصلح لتفسير الشبهات: ما ورد في النهي عنه حديث ضعيف لم يبلغ إلى درجة الاعتبار، ولا ظهر فيه الوضع، وإنما كان من جملة الشبهات؛ لأن العلة التي ضعف بها، لا توجب الحكم عليه أنه ليس من الشريعة، فإن العلة إن كانت مثلا ضعف الحفظ، أو الإرسال، أو الإعضال، أو نحو ذلك من العلل الخفية، فضعيف الحفظ لا يمتنع أن يحفظ في بعض الأحوال.

و "المرسل"، و"المعضل" قد يكون صحيحا، وكذلك ما كان فيه التدليس، ونحوه، ومثل ذلك أحاديث أهل البدع.

فهذا القسم، والذي قبله، وإن لم أقف على من يقول: إنهما من جملة الشبهات فهما - عندي - من أعظمها؛ لأن أقل أحوال الحديث الضعيف لعلة من تلك العلل، أن يكون مشكوكا فيه، ومثله الشك في الإباحة.

وقد ثبت في الحديث، الذي نحن بصدد الكلام عليه: أنه قال صلى الله عليه وسلم: "ومن اجترأ على ما شك فيه من الإثم، أوشك أن يواقع ما استبان".

فالحاصل: أن المشتبهات التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: "والمؤمنون وقافون عند الشبهات" هي أقسام: -الأول: ما تعارضت فيه الأدلة، ولم يظهر الجمع، ولا الترجيح، وهذا بالنسبة إلى المجتهد.

القسم الثاني: ما اختلف فيه العلماء على وجه يوقع الشك في قلب المقلد، لا ما كان قد اتفق عليه جمهور أهل العلم، وشذ فيه المخالف، على وجه لا يكون بخلافه تأثير في اعتقاد المقلد، وهذا القسم إنما يكون في المقلد - كما سبق -.

القسم الثالث: بعض المباح، وهو ما يكون في بعض الأحوال ذريعة إلى الحرام، أو وسيلة إلى ترك الواجب، أو مجازا إلى أحد منهما، على وجه يكون [ ص: 525 ] الإكثار منه مفضيا إلى فعل الحرام، أو ترك الواجب - ولو نادرا -، وهذا يكون من الشبهات للمقلد، والمجتهد.

لكن المجتهد يعرف كونه مباحا، ووسيلة إلى فعل محرم، أو ترك واجب بالدليل. والمقلد يعرف ذلك بأقوال العلماء.

القسم الرابع: المكروهات بأسرها؛ فإنها مشتبهات بالنسبة إلى المجتهد، وبالنسبة إلى المقلد بالاعتبارين المذكورين في القسم الثالث.

القسم الخامس: ما حصل الشك في كونه مباحا أم لا.

التالي السابق


الخدمات العلمية