الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( مسألة ) . أطلق المالكية وجماعة معهم الكفر على الساحر ، وأن السحر كفر ، ولا شك أن هذا قريب من حيث الجملة غير أنه عند الفتيا في جزئيات الوقائع يقع فيه الغلط العظيم المؤدي إلى هلاك المفتي والسبب في ذلك أنه إذا قيل للفقيه ما هو السحر ، وما حقيقته ؟ حتى يقضى [ ص: 136 ] بوجوده على كفر فاعليه يعسر عليه ذلك جدا فإنك إذا قلت له : السحر والرقى والخواص والسيميا والهيميا وقوى النفوس شيء واحد وكلها سحر أو بعض هذه الأمور سحر وبعضها ليس بسحر فإن قال الكل سحر يلزمه أن سورة الفاتحة سحر ؛ لأنها رقية إجماعا ، وإن قال بل لكل واحدة من هذه خاصية يختص بها فيقال بين لنا خصوص كل واحد منها ، وما به تمتاز وهذا لا يكاد يعرفه أحد من المتعرضين للفتيا ، وأنا طول عمري ما رأيت من يفرق بين هذه الأمور فكيف يفتي أحد بعد هذا بكفر شخص معين أو بمباشرة شيء معين بناء على أن ذلك سحر وهو لا يعرف السحر ما هو ؟ ، ولقد وجد في بعض المدارس بعض الطلبة عنده كراسة فيها آيات للمحبة والبغضة والتهييج والنزيف وغير ذلك من الأمور التي تسميها المغاربة علم المخلاة فأفتوا بكفره ، وإخراجه من المدرسة بناء على أن الأمور سحر ، وأن السحر كفر وهذا جهل عظيم وإقدام على شريعة الله بجهل وعلى عباده بالفساد من غير علم فاحذر هذه الخطة الردية المهلكة عند الله وستقف في الفرق الذي بعد هذا على الصواب في ذلك إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( المسألة الثالثة ) قال الأصل : أطلق المالكية وجماعة معهم الكفر على الساحر وأن السحر كفر ، ولا شك أن هذا قريب من حيث الجملة غير أنه عند الفتيا في جزئيات الوقائع يقع فيه الغلط العظيم المؤدي إلى هلاك المفتي ، والسبب في ذلك أنه إذا قيل للفقيه ما هو السحر ، وما حقيقته حتى يقضى بوجوده على كفر فاعليه يعسر عليه ذلك جدا فإنك إذا قلت : له السحر [ ص: 183 ] والرقى والخواص والسيميا والهيميا وقوى النفوس شيء واحد وكلها سحر أو بعض هذه الأمور سحر وبعضها ليس بسحر فإن قال الكل سحر يلزمه أن سورة الفاتحة سحر ؛ لأنها رقية إجماعا ، وإن قال بل لكل واحدة من هذه خاصية تختص بها فيقال بين لنا خصوص كل واحدة منها ، وما به تمتاز وهذا لا يكاد يعرفه أحد من المعترضين للفتيا ، وأنا طول عمري ما رأيت من يفرق بين هذه الأمور فكيف يفتي أحد بعد هذا بكفر شخص معين أو بمباشرة شيء معين بناء على أن ذلك سحر ، وهو لا يعرف السحر ما هو ، ولقد وجد في بعض المدارس عند بعض الطلبة كراسة فيها آيات للمحبة والبغض والتهيج والنزيف وغير ذلك من هذه الأمور التي تسميها المغاربة علم المخلات فأفتوا بكفره ، وإخراجه من المدرسة بناء على أن هذه الأمور سحر ، وأن السحر كفر وهذا جهل عظيم ، وإقدام على شريعة الله بجهل وعلى عباده بالفساد من غير علم فاحذر هذه الخطة الرديئة المهلكة عند الله وستقف في الفرق الذي بعد هذا على الصواب في ذلك إن شاء الله تعالى . ا هـ

كلام الأصل وذهب الإمام أبو القاسم بن الشاط إلى عدم صحة قوله بالتباس الكفر بالكبائر قال فإن قوله أن النهي يعتمد المفاسد إن أراد المفاسد بمقتضى الشرع فلا شك أن الكفر أعظم المفاسد ، وما عداه من المعاصي تتفاوت رتبته على أنه كيف يلتبس بها والكفر أمر اعتقادي والكبائر أعمال وليست باعتقاد سواء كانت أعمال قلبية أو بدنية ، قال : وليس الكفر انتهاك حرمة الربوبية إذ لا يصدر عادة ممن يدين بالربوبية بل يتعذر عادة مع العلم بالله تعالى ، وإنما يكون مع الجهل به تعالى فالكفر إما الجهل بوجود الصانع أو صفاته خاصة عند من لا يصحح الكفر ، وإما الجهل بالله تعالى أو جحده عند من يصحح الكفر عنادا قال : ولا نسلم أن مجرد رمي المصحف في القاذورات كفر بل رميه فيها إن كان مع الجهل فالكفر هو الجهل لا عين رميه ، وإن كان مع العلم بالله تعالى فإن كان مع التكذيب به هو كفر ، وإن لم يكن معه فهو معصية غير كفر .

ولا أن مجرد السجود للصنم كفر بل إن كان مع اعتقاد كونه إلها فهو كفر ، وإلا فلا بل يكون معصية إن كان لغير إكراه وجائزا إن كان للإكراه ولا أن مجرد التردد إلى الكنائس في أعيادهم بزي النصارى ، ومباشرة أحوالهم كفر بل ليس هو بكفر إلا أن يعتقد معتقدهم قال وجحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة كفر إن كان جحد بعد علمه فيكون تكذيبا ، وإلا فهو جهل وذلك الجهل معصية ؛ لأنه مطلوب بإزالة مثل هذا الجهل على وجه الوجوب وحينئذ فلا يكفي الاقتصار على اشتراط شهرة ذلك الأمر من الدين بل لا بد مع اشتهار ذلك من وصول ذلك إلى هذا الشخص وعلمه به فيكون إذ ذاك مكذبا لله تعالى ولرسوله فيكون بذلك كافرا أما إذا لم يعلم ذلك الأمر وكان من معالم الدين المشتهرة فهو عاص بترك التسبب إلى علمه ليس بكافر بذلك ، وما يفيده كلام الشهاب من نقص شرط علم الشخص بذلك الأمر المشتهر ليس بصحيح ، قال : ولا نسلم أن الكبائر والصغائر انتهاك لحرمة الله تعالى وإنما هي جرأة على مخالفة تحمل عليها الأغراض والشهوات .

قال وبناء الشخص الكنائس ليكفر فيها إن كان الاعتقاد رجحان الكفر على الإسلام فهو كفر لا شك فيه ، وإن كان لكافر إرادة التقرب إليه والتودد له بذلك فهو معصية لا كفر وقتل الشخص نبيا مع اعتقاده صحة رسالته ليميت شريعته لا يتأتى فرض كونه كفرا إلا على قول من يجوز الكفر عنادا ، وإشارة الشخص على من أتى ليسلم على يديه بتأخير الإسلام لا تكون كفرا إلا إن كانت لاعتقاده رجحان الكفر أما إن كانت لكونه لا يريد لهذا [ ص: 184 ] الشخص الإسلام لحقد له عليه أو نحو ذلك مما لا يستلزم أن يعتقد المشير رجحان الكفر فلا تكون كفرا قال ويوافق قولنا في مسألة الإشارة بتأخير الإسلام من أنها ليست بكفر من أنه جهة لم يشر بذلك عليه إلا لقصد إثباته لا لاعتقاده رجحان الكفر قول شهاب الدين ، ولا يندرج في إرادة الكفر الدعاء بسوء الخاتمة على من تعاديه ، وإن كان فيه إرادة الكفر ؛ لأنه ليس مقصودا فيه انتهاك حرمة الله تعالى بل إذاية المدعو عليه . وقوله : وليس منه أيضا اختيار الإمام عقد الجزية على الأسارى الموجب لاستمرار الكفر في قلوبهم على القتل إلى قوله وقع بالعرض فإن معناه أن استبقاء الأسارى وضرب الجزية عليهم لا يتعين أنه إيثار لاستمرار الكفر وإذا لم يتعين أن يكون لذلك لم يكن كفرا وأما ما قاله من أنه مشروع مأمور به عند تعين مقتضيه فنقول كذلك يكون لو تعين المقتضي ، ومتى يتعين عندنا ونحن لا نعلم ما عاقبة أمر الأسير .

قال : وكل واحد من الساجد للشجرة والساجد للوالد إن سجد مع اعتقاد أن المسجود له شريك لله تعالى فهو كفر ، وإن سجد لا مع ذلك الاعتقاد بل تعظيما عاريا عن ذلك الاعتقاد فهو معصية لا كفر ، وإن سجد الساجد للشجرة مع اعتقاد أنه شريك لله تعالى وسجد الساجد للوالد لا مع ذلك الاعتقاد بل تعظيما فالأول كفر والثاني معصية غير كفر أو كان الأمر بالعكس فبالعكس .

وأما إذا قلنا إن مجرد السجود للشجرة كفر ؛ لأنها عبدت مدة ، ومجرد السجود للوالد ليس بكفر ؛ لأنه لم يعبد مدة قال : ذلك يفتقر إلى توقيف قال ، ومعنى تبعية الأمر بالمأمور به الواجب مثلا لمصلحته والمراد بها أنه لولا القصد إلى حصول المصلحة ما شرع ، ومعنى تبعية المصلحة للأوامر والمراد بها أنه لولا شرعية الأمر الباعث على فعل المأمور به ما حصلت فالمأمور به تابع للمصلحة وجوبا ، والمصلحة تابعة له وجودا وحينئذ فلا غرو أن يكون أحد الشيئين تابعا للآخر من وجه ويكون الآخر تابعا له من وجه آخر كما أن الشجرة تابعة للثمرة وجوبا أي لولا القصد إلى تحصيل الثمرة ما زرعت الشجرة والثمرة تابعة للشجرة وجودا أي لولا زرع الشجرة ما حصلت الثمرة فصح ما قاله الأغبياء من الطلبة من أن الثواب هي المصلحة وهي تابعة وجود الفعل الواجب وفعل الواجب تابع وجوبا بالتحيل المصلحة ، وبطل ما ادعاه الشهاب من الدور الممتنع ، وإنما الموجب لتوهمه هو الغفلة عن تغاير جهتي التبعية فانزاح الإشكال والحمد لله ذي المن والأفضال قال وكلام الشهاب في القسم الأول من أقسام الجهل العشرة يقتضي الجزم بأن هناك صفة زائدة على ما دلت عليه الصنعة لكننا لا نعلمها فإن أراد أنا لا نعلمها لا جملة ، ولا تفصيلا فقد تناقض كلامه فإن مساق كلامه يقتضي الجزم بثبوتها على الجملة ، وإن كنا لا نعلمها على التفصيل ، وإن أراد أنا لا نعلمها على التفصيل ، وإن علمناها على الجملة كان قوله ذلك دعوى لا دليل عليها ، وقوله عليه السلام لا أحصي إلخ يحتمل أن يريد لا أستطيع المداومة والاستمرار على الثناء عليك للقواطع عن ذلك بكالنوم وشبهه قول الصديق العجز إلخ يحتمل أن يريد أن العجز عن الاطلاع على جميع معلومات الله تعالى اطلاع على الفرق بين الرب والمربوب والمالك والمملوك والخالق والمخلوق وذلك هو صريح الإيمان وصحيح الإيقان .

قال : وهذا المقام مما اختلف الناس فيه فمنهم من يقتضي كلامه أنه لا صفة وراء ما علمناه ، ومنهم من يقتضي كلامه أن هناك صفات لا نعلمها ، ومنهم من يقتضي كلامه الوقف في ذلك وهو الصحيح ويترتب على ذلك أنه لا تكليف بإزالة هذا الجهل ، ولا مؤاخذة [ ص: 185 ] ببقائه كما قال الشهاب قال وفي الاستدلال بالحديثين على ما نقله في القسم الثاني عن شفاء عياض نظر فإنه موضع قطع لا يكفي في مثله الظواهر مع تعين التأويل في الحديثين من جهة أن ظاهر حديث لئن قدر الله علي ليعذبني بنفي أن الله تعالى قادر ويحتمل أن يكون الله تعالى تارة قادرا أو تارة غير قادر وليس ظاهره نفي أنه قادر بقدرة وكذلك ظاهر حديث السوداء أن الله تعالى مستقر في السماء استقرار الأجسام ، وهذا وإن كان غير مجمع على أنه كفر إلا أنه باطل قطعا لقيام الدليل على ذلك وقد أقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فتعين التأويل هنا ؛ لأن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على الباطل لا يجوز ، قال ، وما قاله في القسم الثالث صحيح وكذا ما قاله في القسم الرابع غير أن قوله باق بغير بقاء لم يرد من عبر به ظاهره لما فيه من التناقض بل مراده أن البقاء ليس بصفة ثبوتية ، وما قاله في القسم الخامس صحيح وكذا ما قاله في السادس إلا أنه كان الأولى له إبدال قوله جهل يتعلق بالذات بقوله جهل بالصفات السلبية ، وأن يحذف قوله مع الاعتراف بوجودها فإنه في كلامه كالمتناقض مع أن الجهل بسلب الجسمية ليس مذهب الحشوية بل مذهبهم إثبات الجسمية ، وما في معناها إلا أن يطلق على كل مذهب باطل أنه جهل فذلك له وجه ، وما قاله في القسم السابع صحيح ، وكذا ما قاله في الثامن .

لكن إطلاق لفظ الجهل على المذهب الباطل لا على خصوص مذهب الفلاسفة ، وإلا فمذهبهم الجزم بأن لا بعثة للأجسام والجهل في التاسع إن أراد به الجهل بأن الله تعالى خلق شيئا من الحيوانات الموجودات المعلوم وجودها فذلك كفر لا شك فيه ، وإن أراد به الجهل بأن الله تعالى خلق حيوانا لا يعلم وجوده فذلك ليس بكفر ، ولا معصية ؛ لأن ذلك ليس براجع إلى الجهل لتعلق صفات الله تعالى به بل بوجود هذا المتعلق وبعض الصور التي قد يكلف الشرع بمعرفتها من ذلك لأمر يخصها إن أراد بها مثل السحر الذي يكفر به فذلك وإلا فلا أدري ما أراد ، وما قاله في العاشر نقل وترجيح ، وما قاله فيما يتعلق بالجرأة على الله تعالى ليس بصحيح فإن التكفير لا يصح إلا بقاطع سمعي ، وما ذكره ليس كذلك فلا معول عليه ، ولا مستند فيه فما قاله في المسألة الأولى جوابا عما استشكله بعض العلماء من الفرق بين كون السجود للشجرة كفرا والسجود للوالد ليس بكفر قد تقدم أنه يفتقر إلى توقيف وتقدم ما يدفع الإشكال فلا تغفل ، وما قاله في المسألة الثانية من لزوم الكفر لكل ممتنع من السجود ولكل حاسد ولكل عاص ليس بصحيح ؛ لأنه لا يمنع في العقل أن يجعل الله تعالى حسدا ما وامتناعا وعصيانا ما دون سائر ما هو من جنسه كفرا إذ كون أمر ما كفرا أو غير كفر أمر وضعي وضعه الشارع لذلك فلا مانع من أن يكون كفره لامتناعه أو لحسده ، وما قاله في مدرك كفر إبليس في قضيته مع آدم هو الظاهر مع احتمال أن يكون كفره لامتناعه أو لحسده أو لهما أو مع ما ذكره من التجوير أو للتجوير خاصة إذ لا مانع من عقل ولا نقل من ذلك ، وما قاله من الإجماع صحيح لكن لا بما علله به بقوله ؛ لأنه من الجرأة العظيمة فإنه ليس بصحيح بل إنما كان ذلك لأنه من الجهل العظيم بجلال الله تعالى ، وأنه منزه عن التصرف الرديء والجور والظلم ، وأن ذلك ممتنع في حقه عقلا وسمعا ، وما قاله في المسألة الثالثة صحيح إن كان ما بنى عليه كلامه صحيحا ، والله أعلم . ا هـ كلامه ملخصا . قلت : ومراده بما بنى عليه كلامه قوله فإن قال الكل سحر يلزمه أن سورة الفاتحة سحر وقد علمت مما مر عنه أن هذا اللزوم ونحوه ليس بصحيح إذ لا يمتنع عقلا جعل نوع من الرقى سحرا دون ما عداه بل سيصرح الأصل بالفرق الذي بعد هذا بذلك فافهم ، والله سبحانه وتعالى أعلم




الخدمات العلمية