الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر محاربة بابك في هذه السنة

في هذه السنة واقع بابك بغا الكبير ، فهزمه ، وواقعه الأفشين ، فهزم بابك .

وكان سبب ذلك أن بغا الكبير كان قد قدم بالمال الذي كان معه إلى الأفشين ، ففرقه في أصحابه ، وتجهز بعد النيروز ، ووجه إلى بغا في عسكر ليدور حول هشتادسر ، وينزل في خندق محمد بن حميد ، ويحفره ، ويحكمه ، فسار بغا إلى الخندق ، ورحل الأفشين من برزند ، ورحل أبو سعيد من خش يريدان بابك ، فتوافوا بمكان يقال له : دروذ ، فحفر الأفشين خندقا ، وبنى عليه سورا ، وكان بينه وبين البذ ستة أميال .

ثم إن بغا تجهز ( بغير أمر الأفشين ) ، وحمل معه الزاد ، ودار حول هشتادسر ، حتى دخل قرية البذ ، فنزلها فأقام بها ، ثم وجه ألف رجل في علافة له ، فخرج عليهم بعض عساكر بابك ، فأخذ العلافة ، وقتل كل من كان قاتله ، وأسر من قدر عليه ، وأخذ بعضهم ، فأرسل منهم رجلين إلى الأفشين يعلمانه ما نزل بهم .

ورجع بغا إلى خندق محمد بن حميد تشبيها بالمنهزم ، وكتب إلى الأفشين يعلمه ذلك ، ويسأله المدد ، فوجه إليه الأفشين أخاه الفضل ، وأحمد بن الخليل بن هشام ، وابن جوشن ، وجناحا الأعور ، صاحب شرطة الحسن بن سهل ، وأحد الأخوين قرابة الفضل بن سهل ، فأتوا بغا ، وكتب الأفشين إلى بغا يعلمه أن يغزو بابك في يوم عينه له ، ويأمره أن يغزو في ذلك اليوم بعينه ، فيحاربه من الوجهين ، فخرج الأفشين ذلك اليوم من دروذ يريد بابك ، وخرج بغا من خندقه ، فخرج إلى هشتادسر ، فلم يكن للناس صبر [ ص: 20 ] لشدة البرد والريح ، فانصرف إلى عسكره ، فعسكر على دعوة ، وهاجت ريح باردة ومطر شديد ، فرجع بغا إلى عسكره ، وواقعهم الأفشين من الغد ، بعد رجوع بغا ، فهزم أصحاب بابك ، وأخذ عسكره وخيمته وامرأة كانت معه ، ونزل الأفشين في معسكر ( بابك . ثم تجهز بغا من الغد ، وصعد إلى هشتادسر ، فأصاب العسكر ) [ الذي ] كان بإزائه قد انصرف إلى بابك ، فأصاب من أثاثهم ورحلهم شيئا ، وانحدر من هشتادسر يريد البذ ، وعلى مقدمته داود سياه ، فأرسل إليه بغا : إن المساء قد أدركنا ، وقد تعب الرجالة ، وتوسطنا المكان الذي قد نعرفه ، فانظر جبلا حصينا حتى نعسكر فيه ليلتنا هذه ، فصعد بهم إلى جبل أشرفوا منه على عسكر الأفشين ، فقالوا : نبيت ها هنا إلى غدوة ، وننحدر إلى الكافر إن شاء الله تعالى .

فجاءهم تلك الليلة سحاب وبرد ، وثلج كثير ، فأصبحوا ولا يقدر أحد منهم [ أن ] ينزل فيأخذ ماء ، ولا يسقي دابته من شدة البرد ، واشتد عليه الثلج والضباب ، فلما كان اليوم الثالث قال الناس لبغا : قد فني ما معنا من الزاد ، ( وقد أضر بنا البرد ) ، فانزل على أي حالة كانت ، إما راجعين ، وإما إلى الكافر .

وكان بابك في أيام الضباب والثلج قد بيت الأفشين وبعض عسكره ، وانصرف الأفشين إلى عسكره ، فضرب بغا الطبل وانحدر يريد البذ ، ولا يعلم بما تم للأفشين بل يظنه في موضع عسكره ، فلما نزل إلى بطن الوادي رأى السماء منجلية ، ( والدنيا طيبة ، غير رأس الجبل الذي كان عليه ، فعبأ أصحابه ) ، وتقدم إلى البذ ، حتى صار بحيث يلزق جبل البذ ، ولم يبق بينه وبين أن يشرف على أبيات البذ إلا صعود نصف ميل .

وكان على مقدمته جماعة فيهم غلام لابن البعيث ، له قرابة بالبذ ، فلقيهم طلائع بابك ، فعرف بعضهم الغلام ، فسأله ( عم له ) عمن معه من أهله ، فأخبره ، فقال له : ارجع وقل لمن تعنى به ينتحي ، فإنا قد هزمنا الأفشين ، ومضى إلى خندقه ، وتهيأنا لكم عسكرين ، فعجل الانصراف لعلك تفلت .

[ ص: 21 ] فرجع الغلام فأخبر ابن البعيث ، فأخبر بغا بذلك ، فشاور أصحابه ، فقال بعضهم : هذا باطل ، هذه خدعة . وقال بعضهم : هذا رأس جبل ينظر إلى عسكر الأفشين ، فصعد بغا ، ومعه نفر ، إلى رأس الجبل ، فلم يروا عسكر الأفشين ، فتيقن أنه مضى ، وتشاوروا ، فرأوا أن ينصرف الناس قبل أن يجيئهم الليل ، فانصرفوا ، وجدوا في السير ، ولم يقصد الطريق الذي دخل منه لكثرة مضايقه ، بل أخذ طريقا يدور حول هشتادسر ليس فيه غير مضيق واحد ، فطرح الرجالة سلاحهم في الطريق ، وخافوا ، وصار بغا وجماعة القواد في الساقة ، وطلائع بابك تتبعهم ، وهم قدر عشرة فرسان ، فشاور بغا أصحابه ، وقال : لا آمن أن يكون هؤلاء مشغلة لنا عن المسير ، وتقدم أصحابهم ليأخذوا المضيق علينا ، فقال له الفضل : إن هؤلاء أصحاب الليل ، فأسرع السير ، ولا تنزل حتى تجاوز المضيق . وقال غيره : إن العسكر قد تقطع وقد رموا سلاحهم ، وقد بقي المال والسلاح على البغال ليس معه أحد ، ولا نأمن أن يؤخذ ، ويؤخذ الأسير الذي معهم .

وكان ابن جويدان معهم أسيرا يريدون أن يفادوا به ، فعسكر على رأس جبل حصين ، ونزل الناس وقد كلوا وتعبوا ، وفنيت أزوادهم ، فباتوا يتحارسون من ناحية المصعد ، فأتاهم بابك من الناحية الأخرى ، فكبسوا بغا والعسكر ، وخرج بغا راجلا ، فرأى دابة فركبها ، وجرح الفضل بن كاوس ، وقتل جناح السكري وابن جوشن ، وأخذ [ أحد ] الأخوين قرابة الفضل بن سهل ، ونجا بغا والناس ولم تتبعهم الخرمية ، وأخذوا المال والسلاح والأسير ، فوصل الناس معسكرهم منقطعين إلى خندقهم ، فأقام بغا به خمسة عشر يوما ، وكتب إليه الأفشين يأمره بالرجوع إلى مراغة ، وأن يرسل إليه المدد ، فمضى بغا إلى مراغة ، وفرق الأفشين الناس في مشاتيهم تلك السنة ، حتى جاء الربيع .

وفيها قتل طرخان ، وهو من أكبر قواد بابك ، وكان سبب قتله أنه طلب من بابك إذنا حتى يشتي في قريته ، وهي بناحية مراغة ، وكان الأفشين يرصده ، فلما علم خبره أرسل إلى ترك مولى إسحاق بن إبراهيم ، وهو بمراغة ، يأمره أن يسري إليه في قريته حتى يقتله ، أو يأخذه أسيرا ، ففعل ترك ذلك وأسرى إليه وقتله ، وأخذ رأسه فبعثه إلى الأفشين .

التالي السابق


الخدمات العلمية