الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
[ ص: 370 ] مسألة [ المباح هل هو مأمور به ] nindex.php?page=treesubj&link=20585المباح هل هو مأمور به ؟ خلاف ينبني على أن nindex.php?page=treesubj&link=21052_20585الأمر حقيقة في ماذا ؟ هل هو نفي الحرج عن الفعل أو حقيقة في الوجوب أو في الندب أو في القدر المشترك بينهما ؟ فعلى الأول هو مأمور به بخلاف الثاني والمختار : أنه ليس مأمورا به من حيث هو خلافا nindex.php?page=showalam&ids=15090للكعبي حيث قال : كل فعل يوصف بأنه مباح باعتبار ذاته ، فهو واجب باعتبار أنه ترك به الحرام . وحكاه ابن الصباغ عن أبي بكر الدقاق ; لأنه يكون بفعله مطيعا بناء على قوله : إن المباح حسن ، وصرح القاضي عن nindex.php?page=showalam&ids=15090الكعبي في " مختصر التقريب " بأن المباح مأمور به دون الأمر بالندب ، والندب دون الأمر بالإيجاب .
قال القاضي : وهو ، وإن أطلق الأمر على المباح فلا يسمى المباح واجبا ، ولا الإباحة إيجابا ، وتبعه في هذا الغزالي في " المستصفى " وابن القشيري في أصوله " وعلى هذا فلا يكون nindex.php?page=showalam&ids=15090الكعبي مفاجئا بإنكار المباح [ ص: 371 ] وهو قضية استدلاله . ونقل الإمام عنه في " البرهان " وإلكيا الهراسي : أنه باح بإنكار المباح في الشريعة ، وقال : هو واجب ، وكذا نقله ابن برهان في " الوجيز " و " الأوسط " والآمدي وغيرهم والأليق به ما ذكره القاضي ، وكذلك نقله nindex.php?page=showalam&ids=14960القاضي عبد الوهاب ، ونسبه إلى معتزلة بغداد ، فلم ينفرد به إذن كما قال بعضهم ، فقد قال به أبو الفرج من المالكية : حكاه عنه الباجي ، ثم قال : إن كان مرادهم بكون المباح مأمورا به أنه مأذون في فعله وتركه ، فالخلاف في العبارة ، وإن أرادوا أن الإباحة للفعل اقتضاء له على جهة الإيجاب أو الندب وأن فعل المباح خير من تركه فهو باطل .
وقال الإبياري : ذهب nindex.php?page=showalam&ids=15090الكعبي إلى أنه لا مباح في الشريعة ، وله مأخذان . أحدهما : وهو الصحيح عنده أن المباح مأمور به ولكنه دون الندب ، كما أن المندوب مأمور به ولكن دون الواجب ، وهذا بناه على أن المباح حسن ، ويحسن أن يطلبه الطالب لحسنه ، وهذا هو الذي اعتمده في الفتوى ، وهو غير معقول ، فإن هذا المطلوب إما أن يترجح فعله على تركه أو لا : فإن لم يترجح فهو المباح بعينه ، وإن ترجح فإن لحق الذم على تركه ; فهو الواجب ، وإلا فهو المندوب ، ومن تخيل واسطة فلا عقل له . انتهى . [ ص: 372 ]
وألزم إمام الحرمين أصحابنا المصير إلى مقالة nindex.php?page=showalam&ids=15090الكعبي من قولهم : النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده من حيث إن الزنى لما كان منهيا عنه فإن القواطع عنه بالاشتغال لا تكاد تنحصر ، ولكن مع هذا كون حكمها عند nindex.php?page=showalam&ids=15090الكعبي أو أحدها واجبا على المكلف التبس به ليكون قاطعا له عن الزنى ، ويخير في الأشغال القاطعة ، فما اختار أن يتلبس به منها تعين وجوبه كما يقول أصحابنا : إن النهي عن الشيء الذي له أضداد كثيرة أمر بأحد أضداده التي يكون التلبس بها يقطعه عن ذلك المنهي عنه ، ويكون مخيرا في التلبس بأيهما شاء ويجري مجرى التخيير في كفارة اليمين . والحق : أن مقصود الشارع بخطاب الإباحة إنما هو ذاته من غير اعتبار آخر ، فأما من جهة أنه شاغل عن المعاصي فليس هذا بمقصود الشرع ، ولا هو المطلوب من المكلف ، وما صوره nindex.php?page=showalam&ids=15090الكعبي من كون ذلك ذريعة ووسيلة فلا ننكره ، ولكن المنكر قصد الشارع إليه ، ولإجماع المسلمين على أن الإباحة حكم شرعي ، وأنه نقيض الواجب ، وكونها وصلة لا يغلب حكمها المقصود المنصوص عليه شرعا .
وقال إلكيا الطبري : مذهب nindex.php?page=showalam&ids=15090الكعبي يتجه على القول بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، ولا طريق إلى الجمع بين ذلك المذهب وخلاف nindex.php?page=showalam&ids=15090الكعبي . ونحن نقول : إن الواجب ما تعلق به خطاب مقصود ، والإباحة مقصودة في الإباحات ، ولم يشرع للنهي عن المحظورات ، وقول القائل : " لا تزن ولا تسرق " لم يطلق له الرواح والمجيء من غير خطور النهي عن السرقة . وليس الوجوب وصفا راجعا إلى العين حتى يقال : لا أثر لقصد المخاطب فيه ، ولعل nindex.php?page=showalam&ids=15090الكعبي يعتقد الوجوب وصفا راجعا إلى العين كما قالوا في الحسن والقبح ، أو يخالف في العبارة . [ ص: 373 ] قال : وبالجملة فالخلاف في هذه المسألة يرجع إلى عبارة " إذ لا تتعلق به فائدة شرعية ولا عقلية " .
نعم قد يتعلق به فوائد شرعية ، فإن الناوي للصوم لا يقصد الإمساك ليلا ، ولا ينوي بصومه تقربا ، وقد يقال ذلك ; لأن الواجب منه مجهول لا يدرى مقداره فيقال : المجهول كيف يكون واجبا ولا إمكان فيه ؟ والمخالف فيه يقول : لا جرم هذا النوع وآخر جزء من الرأس لا يتصفان بالوجوب ; لأن الواجب منهما لا يتبين فلا يندرج تحت اختيار العبد فتبقى تسمية الواجب من هذه الجهة ، وإلا فما علم الحكيم أنه لا يتأتى أداء الواجب إلا به يجعله واجبا . انتهى .
وقال ابن برهان في " الأوسط " : بنى nindex.php?page=showalam&ids=15090الكعبي مذهبه على أصل إذا سلم له فالحق ما قاله ، وهو أن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده ، ولا مخلص من مذهبه إلا بإنكار هذا الأصل . انتهى . وكذا قال الآمدي nindex.php?page=showalam&ids=12671وابن الحاجب : احتج nindex.php?page=showalam&ids=15090الكعبي بأن فعل المباح ترك الحرام ; لأنه ما من مباح إلا وهو ترك لمحظور . وترك الحرام واجب ، فيلزم أن يكون فعل المباح واجبا من جهة وقوعه تركا لمحظور ، وأجيب عنه بأمرين . أحدهما : أنا لا نسلم أنه يلزم من فعله ترك الحرام لجواز تركه بواجب أو مندوب ، فلا يكون تركا للحرام بل يحصل به تركه ، ولا يتعين المباح الذي به يترك الحرام . قال nindex.php?page=showalam&ids=12671ابن الحاجب : وفيه إقرار بأن بعض المباح واجب . [ ص: 374 ]
قال الآمدي : هذا الجواب صادر ممن لم يعلم كلامه فإنه إذا ثبت أن ترك الحرام واجب ، وأنه لا يتم بدون التلبس بضده من أضداده ، وقد تقرر أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فالتلبس بضد من أضداده واجب . والثاني أنه يلزم إذا nindex.php?page=treesubj&link=20525_20531ترك واجبا مضيقا كإنقاذ أعمى من بئر واشتغل بالصلاة أنه حرام . قال nindex.php?page=showalam&ids=12671ابن الحاجب : وهو يلتزمه . قال : ولا مخلص عنه إلا بأن nindex.php?page=treesubj&link=20525_20531ما لا يتم الواجب إلا به من عقلي أو عادي فليس بواجب ، ولعل هذا هو الذي دعاه إلى ذلك في مسألة مقدمة الواجب . واعلم أن هذا السؤال استصعبه المتأخرون ، وزعموا أن كلام nindex.php?page=showalam&ids=15090الكعبي صحيح حتى قال الآمدي : عسى أن يكون عند غيري حله .
ونحن نقول : قوله إن الحرام إذا ترك به حرام آخر يكون واجبا من جهة أخرى يقال عليه : إن التفصيل بالجهتين إنما هو في العقل دون الخارج ، فليس لنا في الخارج فعل واحد يكون واجبا حراما ; لاستحالة تقوم الماهية بفصلين متنافيين ، وهما فصل الوجوب وفصل الحرمة ، وكذلك أيضا يقال على قوله : إن المباح واجب لاستحالة اجتماع الوجوب والإباحة في الشيء الواحد ، وقد علم بالبديهة امتناع تقويم الماهية بفصلين أو فصول متعاندة ، ومن ثم امتنع أن يكون للشيء مميزان ذاتيان بخلاف المميزين العرضيين الخاصين واللازمين . وأيضا نقول : قوله " فعل " المباح ترك الحرام . قلنا : تركه له بخصوصه أو ترك له مع غيره ، والأول يلزم منه كون الفعل واجبا ، وأما [ ص: 375 ] الثاني فلا نسلم ، وسند المنع أن التلبس بالفعل المعين ترك لجميع الأفعال الواجبة والمندوبة والمحرمة والمكروهة والمباحة غير الفعل المتلبس به ، وترك الجمع المذكور لا يتعين به ضد معين عملا بترك الصلاة على الكافر . فإنه لم يتعين من مفهومه وجوب الصلاة على المسلم ، ثم نقول : ما ذكرتم ، وإن دل على وجوبه .
قلنا : ما يدل على إباحته من وجوه . أحدها : أن فعل المباح مستلزم لترك الواجب الذي ليس بمضيق ، ولترك الحرام ، وإذا تعارضت اللوازم تساقطت فيبقى المباح على إباحته . الثاني : أن فعل المباح مستلزم لتعارض اللزوم الذي استلزمه لوازم الأحكام الخمسة ، ومتى تعارضت اللوازم تساقطت . الثالث : أنا لو فرضنا جميع الأفعال دائرة أخذت الأفعال المباحة خمسها . فإذا حصل الفعل المتلبس به فهو مركز الدائرة ، وإذا كان مثلا مباحا بالذات الذي أقر nindex.php?page=showalam&ids=15090الكعبي به حصل للفعل المذكور نسبة إلى كل خمس من أجزاء الدائرة ، والفرض أنه مباح فتساقطت النسب الخمس ، وتبقى الإباحة الذاتية . الثاني : من أدلة الدائرة إذا تلبس المتلبس حصلت له الإباحة بالذات وبالنسبة حصل منه الوجوب ناشئا عن النسبة ، وكل ما كان فيه أمران يقتضيان حكمين عارضهما أمر مساو لأحدهما يقتضي نفي ذلك الحكم ، فإنه مرجح وقوع نقيض الأمرين ، فيرجح القول بإباحة الفعل المذكور . الثالث : أن تقول : هذا الفعل فيه إباحة ذاتية ، وإباحة نسبية ، وفيه وجوب نسبي معارض للإباحة فيتساقطان وتبقى الإباحة الذاتية . الرابع : أن تقول : الإباحة النسبية ترجح بانفرادها على الوجوب [ ص: 376 ] النسبي ; لأن الإباحة النسبية متوقفة على النسبة المذكورة والوجوب يتوقف على ترك الحرام ، والحرام متوقف على النسبة المذكورة فترجح الإباحة ، وقد رد مذهب nindex.php?page=showalam&ids=15090الكعبي أيضا باستلزام كون المندوب واجبا ، إذ يترك به الحرام ، وكذا سائر الأقسام مع نقائضها ، ولا يقوله عاقل ; ولأنه يلزم أن كل انتقال عن تحريم من قيام أو قعود أو نوم أن يكون واجبا ، وهو خرق الإجماع ، ويلزم فيما إذا اشتغل عن القتل بالزنى أن يكون واجبا ، فيجمع بين النقيضين ، وهو محال ; ولأنه مسبوق بإجماع الأمة ، فمن سبق بالإجماع لا يلتفت إليه ، وقال بعضهم : المباح أحد أضداد المحرم ، والتلبس بأحدها واجب ، ويتعين بفعل المكلف ، فيصح وصفه بالوجوب ، كالواجب المخير ، وهو قوي الإشكال على مذهب المعتزلة الواصفين كل واحد من التخيير بالوجوب ، لا على مذهب من يقول : الواجب المسمى فإنه لا يلزمه وصف أحد المباحات على التعبير بالوجوب .