الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الثاني والأربعون بين قاعدة كون الزمان ظرفا لإيقاع المكلف به فقط وبين قاعدة كون الزمان ظرفا للإيقاع ) وكل جزء من أجزائه سبب للتكليف والوجوب فيجتمع الطرفان الظرفية والسببية في كل جزء من الأجزاء ويتضح الفرق بين هاتين القاعدتين بذكر سبع مسائل ( المسألة الأولى )

أوقات الصلوات كالقامة مثلا بالنسبة للظهر هي ظرف للمكلف به لوقوعه فيها وكل جزء من أجزائها من أولها إلى آخرها سبب للتكليف لأنه لو كان سبب التكليف بصلاة الظهر إنما هو الجزء الأول منها فقط لكان من بلغ بعده أو أسلم من الكفار لا تجب عليه صلاة الظهر لتأخره عن السبب وزوال المانع واجتماع الشرائط بعد زوال الأسباب لا تفيد شيئا بدليل ما تقدم من أوقات الصلوات فإن البلوغ إذا جاء بعدها لا يحقق وجوبا فلا بد حينئذ أن يصادف البلوغ ونحوه سببا بعده فوجب الظهر على من بلغ في القامة بالجزء الذي صادفه بعد بلوغه وكذلك القول في بقية أرباب الأعذار فظهر أن كل جزء من أجزاء القامة مساو للزوال في السببية وأن ما سبق إلى الفهم أن السبب للظهر إنما هو الزوال فقط ليس كذلك وكذلك بقية أوقات الصلوات ينبغي أن يفهم على هذه القاعدة أنها كلها ظروف للتكليف وجميع أجزائها ظروف وأسباب له .

( المسألة الثانية ) أيام الأضاحي الثلاثة أو الأربعة على الخلاف بين العلماء ظروف للأمر بالأضحية لوجوده فيها وكل جزء من أجزائها سبب للأمر أيضا بالأضحية بدليل أن من تجدد إسلامه من الكفار أو بلوغه من الصبيان يتجدد عليه الأمر بالأضحية وكذلك من عتق من العبيد وما ذلك إلا لأنه وجد بعد زوال المانع وحصول الشرط ما هو سبب للأمر بالأضحية وهو الجزء الكائن بعد زوال المانع من هذه الأيام فتكون كلها ظروفا وأسبابا [ ص: 221 ] للأمر كما تقدم في أوقات الصلوات

( المسألة الثالثة ) شهر رمضان المعظم ظرف للتكليف لوقوعه فيه وكل يوم من أيامه سبب للتكليف لمن استقبله فمن بلغ أو أسلم أو زال عن المرأة الحيض أو قدم من السفر فيلزمه لليوم الذي يستقبله وأما أجزاء اليوم فليست أسبابا للتكليف بل ظروفا له بدليل حصول التكليف فيها وعدم التكليف فيها على من بلغ في بعض يوم أو أسلم وبهذا يحصل الفرق بين أجزاء أوقات الصلوات وأجزاء شهر الصوم أن مطلق الجزء كيف كان وإن قل ما لم ينقص عن زمن يسع إيقاع ركعة سبب التكليف فإن نقص عن زمن ركعة فعند مالك لا يجب به شيء وعند غيره يجب بأقل من إدراك ركعة ويحكى عن الشافعي وأما أجزاء شهر الصوم فلا بد في كل جزء من أجزائه أن يكون يوما كاملا فهو وزان زمن يسع ركعة على مذهب مالك فهذه ثلاث مسائل مما اجتمع فيه الظرفية والسببية فنذكر ثلاثا أخر مما هو ظرف فقط .

( المسألة الرابعة ) قضاء رمضان يجب وجوبا موسعا إلى شعبان من تلك السنة كما تجب الظهر وجوبا موسعا من أول القامة إلى آخرها غير أن هذه الشهور ظرف للتكليف بإيقاع المكلف به دون أن يكون شيء من أجزائها سببا للتكليف بدليل أن من زال عذره فيها لا يلزمه شيء وإنما السبب في وجوب هذا الصوم أجزاء رمضان السابق فكل يوم هو سبب لوجوب القضاء في يوم آخر من هذه الشهور إذا لم يصم فيه ولا يعتقد أن سبب وجوب القضاء هو رؤية الهلال فقط بل رؤية الهلال سبب لجعل كل يوم من أيام رمضان سببا للوجوب وظرفا له فيصير سبب رؤية الهلال كل يوم سببا لوجوب الإيقاع فيه وتفويته سببا للصوم في يوم آخر من هذه الشهور فقط فتأمل ذلك فقل من يتفطن له بل يعتقد في بادئ الرأي أن سبب القضاء والأداء هو رؤية الهلال فقط وليس كذلك بل رؤية الهلال سبب لسببية ثلاثين سببا للقضاء وهي ثلاثون تركا إن وقعت أو بعضها وسبب لوجوب ثلاثين يوما مسببات فقط لا أسباب فصارت رؤية الهلال يتعلق بها ستون يوما ثلاثون يوما مسببات صوم وثلاثون يوما أسباب تروك هذا تحقيق هذه المسألة فظهر أن شهور القضاء ظروف للتكليف لا أسباب له ( المسألة الخامسة )

جميع العمر [ ص: 222 ] ظرف لوقوع التكليف بإيقاع النذور والكفارات لوجود التكليف في جميع ذلك وليس شيء من ذلك سببا للتكليف بالكفارة أو النذر بل سبب الكفارة ما تقدم من يمين أو غيره وسبب لزوم النذر ما تقدم من الالتزام وهو ظاهر .

( المسألة السادسة ) شهور العدد ظروف للتكليف بالعدة لوجوده فيها وليس شيء من أجزائها سببا للتكليف بالعدة بل سبب لزوم العدة ما تقدم من الوفاة أو الطلاق وهذه الشهور تشبه شهور قضاء رمضان من جهة عدم السببية وتفارقها من جهة أن شهور العدة التكليف فيها مضيق والوجوب في شهور قضاء رمضان موسع فتأمل هذه الفروق وإذا تقررت مسائل القسمين فاذكر مسألة مركبة من القسمين وهي المسألة السابعة فأقول

( المسألة السابعة ) زكاة الفطر اختلف فيها متى تجب قيل بغروب الشمس آخر أيام رمضان وقيل بطلوع الفجر يوم الفطر وقيل بطلوع الشمس منه وقيل تجب وجوبا موسعا من غروب الشمس آخر أيام رمضان إلى غروب الشمس يوم الفطر وقول هذا القائل تجب زكاة الفطر وجوبا موسعا من الغروب إلى الغروب معناه إنه لا يأثم إلا بعد الغروب يوم الفطر والمنقول عن صاحب القول الأول أنه لا يأثم بالتأخير إلى غروب الشمس يوم الفطر وأنه إنما يأثم بالتأخير بعد الغروب يوم الفطر وهذا هو عين القول الرابع وقد عسر الفرق على جماعة من الفضلاء بين هذين القولين والفرق بينهما إنما يستفاد من معرفة الفرق بين هاتين القاعدتين وذلك أن القائل الأول يقول غروب الشمس من يوم الصوم سبب وما بعده ظرف للتكليف فقط ولا يكون شيء من أجزاء هذا الزمان سببا للتكليف والقائل الرابع يقول كل جزء من أجزاء هذا الزمان من الغروب إلى الغروب ظرف للتكليف وسبب له فقد اشتركا في التوسعة لكن توسعة الأول كتوسعة قضاء رمضان وتوسعة الثاني كتوسعة صلاة الظهر والفرق بين التوسعتين قد تقدم وأن التوسعة قد تستمر فيها السببية وقد لا تستمر ويتخرج على القولين من بلغ في هذا الوقت أو عتق أو أسلم فإنه يتوجه عليه الأمر بزكاة الفطر على القول الثاني كالذي يبلغ في أثناء أوقات الصلوات ولا يتجه عليه الأمر بزكاة الفطر على القول الأول كمن بلغ في شهور قضاء الصوم فهذا هو الفرق بين القولين وهو لا يمكن أن يعلمه إلا من علم هاتين القاعدتين [ ص: 223 ] المتقدمتين والفرق بينهما وقد تلخص الفرق بينهما بهذه المسائل تلخيصا ظاهرا بفضل الله تعالى .

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الثاني والأربعون بين قاعدة كون الزمان ظرفا لإيقاع المكلف به فقط وبين قاعدة كون الزمان ظرفا للإيقاع وكل جزء من أجزائه سبب للتكليف والوجوب فيجتمع الطرفان الظرفية والسببية في كل جزء من الأجزاء )

وذلك أن كل يوم من أيام ما عدا رمضان من الشهور مثلا ظرف لإيقاع المكلف به وهو وجوب قضاء رمضان وجوبا موسعا دون أن يكون شيء من تلك الأيام سببا للتكليف بدليل أن من زال عذره فيها لا يلزمه شيء ورؤية هلال رمضان سبب لجعل كل يوم من أيام رمضان سببا لوجوب الصوم وظرفا له بحيث إن من بلغ أو أسلم أو زال عن المرأة الحيض أو قدم من السفر يلزمه صوم اليوم الذي يستقبله فيصير سبب رؤية الهلال كل يوم سببا لوجوب إيقاع الصوم فيه وتفويت الإيقاع فيه سببا للصوم في يوم آخر مما عدا رمضان من الشهور فقط ويوضح لك هذا الفرق سبع مسائل ثلاثة منها مما اجتمع فيه الظرفية والسببية وثلاثة منها مما انفرد فيه الظرفية عن السببية والسابعة مما تحتملهما أما مسائل ما اجتمع فيه الظرفية والسببية فالمسألة الأولى

أوقات الصلوات كالقامة مثلا بالنسبة للظهر هي ظرف للمكلف به لوقوعه فيها وكل جزء من أجزائها من أولها إلى آخرها لا الجزء الأول منها الذي هو الزوال فقط كما توهم سبب للتكليف إذ لو كان سبب التكليف بصلاة الظهر هو الجزء الأول منها فقط لكان من بلغ بعده أو أسلم من الكفار لا تجب عليه صلاة الظهر لتأخره عن السبب ولا يفيد شيئا زوال المانع واجتماع الشرائط بعد زوال الأسباب بدليل أن البلوغ إذا جاء بعد أوقات الصلاة لا يحقق وجوبا وإنما يحققه إذا صادف سببا بعده كمن بلغ في القامة فإنه يجب عليه الظهر بالجزء الذي صادفه بعد بلوغه وكذلك القول في بقية أرباب الأعذار فظهر أن كل جزء من أجزاء القامة مساو للزوال في السببية وكذلك بقية أوقات الصلوات كلها ظروف للتكليف وجميع أجزائها ظروف وأسباب له ( والمسألة الثانية )

أيام الأضاحي الثلاثة أو الأربعة على الخلاف بين العلماء ظروف للأمر بالأضحية لوجوده فيها وكل جزء من أجزائها سبب للأمر بالأضحية أيضا بدليل أن من تجدد إسلامه من الكفار أو بلوغه من الصبيان يتجدد عليه الأمر بالأضحية وكذلك من عتق من العبيد وما ذلك إلا لأنه وجد بعد زوال المانع وحصول الشرط ما هو سبب للأمر بالأضحية وهو الجزء الكائن بعد زوال [ ص: 224 ] المانع من هذه الأيام فتكون كلها ظروفا وأسبابا للأمر بالأضحية كما تقدم في أوقات الصلوات ( المسألة الثالثة )

شهر رمضان المعظم ظرف للتكليف لوقوعه فيه وكل يوم من أيامه سبب للتكليف لمن استقبله فمن أسلم أو بلغ أو قدم من السفر أو زال عن المرأة الحيض فيلزمه صوم اليوم الذي يستقبله وأما أجزاء اليوم الذي زال فيه المانع فليست أسبابا للتكليف بل ظروفا له بدليل حصول التكليف فيها وعدم التكليف بها على من بلغ في بعض يوم أو أسلم فظهر بهذا حصول الفرق بين أجزاء أوقات الصلوات وأجزاء شهر الصوم بأن مطلق الجزء من أوقات الصلوات كيف كان وإن قل ما لم ينقص عن زمن يسع إيقاع ركعة سبب التكليف فإن نقص عن زمن ركعة فعند مالك لا يجب به شيء وعند غيره يجب بأقل من إدراك ركعة ويحكى عن الشافعي ولا بد في كل جزء من أجزاء شهر الصوم أن يكون يوما كاملا فاليوم الكامل من شهر الصوم وزان زمن من أوقات الصلوات يسع ركعة على مذهب مالك وأما مسائل ما انفرد فيه الظرفية عن السببية المسألة الأولى

قضاء رمضان وإن وجب وجوبا موسعا في كل يوم من أيام ما عدا رمضان من الشهور كما تجب الظهر وجوبا موسعا في كل جزء من أجزاء أول القامة إلى آخرها إلا أن كل يوم من شهور ما عدا رمضان ظرف للتكليف بإيقاع المكلف به لا سبب للتكليف بدليل أن من زال عذره في أي يوم منها لا يلزمه شيء وكل جزء من أجزاء القامة ظرف للتكليف بإيقاع المكلف به وسبب للتكليف بالأداء فيه والقضاء بعد فوات القامة كما عرفت وكذا كل يوم من أيام رمضان ظرف للتكليف بإيقاع المكلف به وسبب للتكليف بالأداء فيه والقضاء بعد فواته في يوم مما عدا رمضان من الشهور إلا أن جزء اليوم من أيام رمضان وإن كان ظرفا للتكليف لا يكون سببا له بدليل حصول التكليف فيه وعدم التكليف به على من بلغ في بعض يوم أو أسلم وأي جزء من أجزاء القامة مثلا وإن قل ما لم ينقص عما يسع إيقاع ركعة عندنا وعند غيرنا وإن نقص عن ذلك سبب التكليف بلا داء فيه والقضاء بعد فواته كما علمت وبالجملة فكل يوم كامل من أيام رمضان سبب للوجوب وظرف له وتفويته سبب للصوم في يوم آخر من أيام ما عدا رمضان من الشهور وزان زمن يسع ركعة أو أقل منها على الخلاف من أزمان القامة مثلا والسبب في جعل كل يوم من رمضان سببا للوجوب وظرفا له وتفويته سببا للصوم في يوم آخر مما عدا رمضان من الشهور وهو رؤية هلال رمضان فرؤية الهلال ليست سبب القضاء والأداء وإن كان هو الذي يعتقد في بادئ الرأي بل رؤية الهلال سبب لسببية ثلاثين سببا للقضاء وهي ثلاثون تركا إن وقعت هي أو بعضها وسبب لوجوب ثلاثين يوما مسببات فقط لا أسباب فصارت رؤية الهلال يتعلق بها ستون يوما ثلاثون يوما مسببات صوم وثلاثون يوما أسباب تروك فافهم هذا التحقيق والمسألة الثانية

جميع العمر ظرف لوقوع التكليف بإيقاع النذور والكفارات [ ص: 225 ] لوجود التكليف في جميع ذلك وليس شيء من ذلك سببا للتكليف بالكفارة أو النذر بل سبب الكفارة ما تقدم من يمين أو غيره وسبب لزوم النذر ما تقدم من الالتزام وهو ظاهر ( والمسألة الثالثة )

شهور العدد بكسر العين كشهور قضاء رمضان من جهة عدم السببية فهي ظروف للتكليف بالعدة لوجوده فيها وليس شيء من أجزائها سببا للتكليف بالعدة بل سبب لزوم العدة ما تقدم من الوفاة أو الطلاق إلا أن شهور العدد تفارق شهور قضاء رمضان من جهة أن التكليف فيها مضيق والوجوب في شهور قضاء رمضان موسع وأما المسألة السابعة التي تحتملهما فهي أن في وجوب زكاة الفطر من غروب الشمس آخر أيام رمضان إلى غروب الشمس يوم الفطر وجوبا موسعا أو بغروب الشمس آخر أيام رمضان أو بطلوع الفجر يوم الفطر أو بطلوع الشمس من يوم الفطر أقوال والقول الأول وإن كان معناه أنه لا يأثم بالتأخير إلى غروب الشمس يوم الفطر وإنما يأثم بالتأخير بعد الغروب يوم الفطر والمنقول عن القائل بالقول الأول من مقابله أنه لا يأثم إلا بعد الغروب يوم الفطر أيضا إلا أنه يفرق بينهما بأن القائل بالقول الأول يقول كل جزء من أجزاء هذا الزمان من الغروب إلى الغروب ظرف للتكليف وسبب له والقائل بالقول الأول من مقابله يقول غروب الشمس من يوم الصوم سبب وما بعده ظرف للتكليف فقط فلا يكون من أجزائه سببا للتكليف فهما وإن اشتركا في التوسعة إلا أن التوسعة في الأول كتوسعة صلاة الظهر تستمر فيها السببية وفي الثاني كتوسعة قضاء رمضان لا تستمر فيها السببية .

وتظهر ثمرة الخلاف فيمن بلغ في هذا الوقت أو عتق أو أسلم فيتوجه عليه الأمر بزكاة الفطر على القول الأول كالذي يبلغ في أثناء أوقات الصلوات ولا يتجه عليه الأمر بزكاة الفطر على الأول من مقابله كمن بلغ في شهور قضاء الصوم فافهم هذه الفروق تنفعك والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية