الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3636 [ 1960 ] وعن أنس قال: ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما.

                                                                                              وفي رواية: يقول: باسم الله والله أكبر.

                                                                                              رواه أحمد (3 \ 115) والبخاري (5558) ومسلم (1966) (17 و 18) وأبو داود (2794) والترمذي (1494) والنسائي (7 \ 230) وابن ماجه (3120).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و(قوله: ضحى بكبشين أملحين أقرنين ) اختلف في الأملح. فقال الأصمعي : هو الأبيض; لون الملح ونحوه. قال ابن الأعرابي : هو النقي البياض. وقال غيرهما: الملحة من الألوان: بياض يخالطه سواد. يقال: كبش أملح إذا كان شعره خليسا. هذا الذي حكاه في الصحاح، ولم يحك ما ذكر عن الأصمعي وابن الأعرابي .

                                                                                              و( المدية ): السكين، وتجمع: مدى، كغرفة وغرف.

                                                                                              و(الشحذ): الحد، ومنه قوله:

                                                                                              [ ص: 362 ]


                                                                                              فيا حجر الشحذ حتى متى تسن الحديد ولا تقطع؟



                                                                                              وفيه الأمر بحد آلة الذبح، كما قال في الحديث الآخر: (إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته). وهو من باب الرفق بالبهيمة بالإجهاز عليها، وترك التعذيب، فلو ذبح بسكين كالة، أو بشيء له حد، وإن لم يكن مجهزا بل معذبا فقد أساء، ولكنه إن أصاب سنة الذبح; لم تحرم الذبيحة، وبئس ما صنع، إلا إذا لم يجد إلا تلك الآلة.

                                                                                              وفيه من الفقه: استحباب العدد في الأضاحي، ما لم يقصد المباهاة. وأن المضحي يلي ذبح أضحيته بنفسه; لأنه المخاطب بذلك، ولأنه من باب التواضع. وكذلك الهدايا، فلو استناب مسلما جاز. واختلف في الذمي، فأجاز ذلك عطاء ابتداء. وهو أحد قولي مالك . وقال له في قول له آخر: لا يجزئه، وعليه إعادة الأضحية. وكره ذلك جماعة من السلف، وعامة أئمة الأمصار، إلا أنهم قالوا: يجزئه إذا فعل.

                                                                                              وفيه: استحباب إضجاع الذبيحة، ولا تذبح قائمة، ولا باركة. وكذلك مضى العمل بإضجاعها على الشق الأيسر; لأنه أمكن من ذبحها.

                                                                                              وفيه: استحباب وضع الرجل على جانب عنق الذبيحة، وهو المعبر عنه بالصفاح. وصفحة كل شيء: جانبه وصفحه أيضا، وإنما يستحب ذلك لئلا تضطرب الذبيحة [ ص: 363 ] فتزل يد الذابح عند الذبح. وقد روي نهي عن ذلك، والصحيح: ما ذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وضعه رجله على صفاحهما.

                                                                                              وفيه من الفقه: تعيين التسمية ; فإنه قال: باسم الله، والله أكبر. وقد اختلف في ذلك، فقال أبو ثور : التسمية متعينة كالتكبير في الصلاة. وكافة العلماء على استحباب ذلك. فلو قال ذكرا آخر فيه اسم من أسماء الله وأراد به التسمية جاز، وكذلك لو قال: الله أكبر - فقط - أو: لا إله إلا الله، قاله ابن حبيب ، فلو لم يرد التسمية لم تجزئ عن التسمية، ولا تؤكل. قاله الشافعي ، ومحمد بن الحسن . وكره كافة العلماء من أصحابنا، وغيرهم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند التسمية في الذبح، أو ذكره، وقالوا: لا يذكر هنا إلا الله وحده. وأجاز الشافعي الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الذبح.

                                                                                              و(قوله: اللهم تقبل من محمد ، وآل محمد ، ومن أمة محمد ) هذا دليل للجمهور على جواز قول المضحي: اللهم تقبل مني، على أبي حنيفة ; حيث كره أن يقول شيئا من ذلك، وكذلك عند الذبح. وقد استحسنه بعض أصحابنا، واستحب بعضهم أن يقول ذلك بنص الآية: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وكره مالك قولهم: اللهم منك وإليك، وقال: هذه بدعة. وأجاز ذلك ابن حبيب من أصحابنا، والحسن .

                                                                                              قلت: وقد روى أبو داود من حديث جابر بن عبد الله قال: ذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الذبح كبشين أقرنين موجئين، أملحين، فلما وجههما قال: إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وقرأ إلى قوله: وأنا أول المسلمين اللهم منك وإليك عن محمد وأمته، باسم [ ص: 364 ] الله، والله أكبر، ثم ذبح. فهذا الحديث حجة للحسن وابن حبيب . وأما مالك : فلعل هذا الحديث لم يبلغه، أو لم يصح عنده، أو رأى أن العمل يخالفه. وعلى هذا يدل قوله: إنه بدعة.

                                                                                              وفيه من الفقه ما يدل على جواز تشريك الرجل أهل بيته في أضحيته ، وأن ذلك يجزئ عنهم. وكافة علماء الأمصار على جواز ذلك، مع استحباب مالك أن يكون لكل واحد من أهل البيت أضحية واحدة، وكان أبو حنيفة ، وأصحابه، والثوري يكرهون ذلك. وقال الطحاوي : لا يجزئ. وزعم أن الحديث في ذلك من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - منسوخ، أو مخصوص. وممن قال بالمنع: عبد الله بن المبارك .

                                                                                              قلت: وهذه المسألة فيها نظر، وذلك أن الأصل أن كل واحد مخاطب بأضحية، وهذا متفق عليه، فكيف يسقط عنهم بفعل أحدهم؟!

                                                                                              وقوله: ( اللهم تقبل من محمد وآل محمد ) ليس نصا في إجزاء ذلك عن أهل بيته، بل هو دعاء لمن ضحى بالقبول. ويدل عليه قوله: ( ومن أمة محمد )، وقد اتفق الكل على أن أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تجزئ عن أمته، ولو سلم ذلك لكان يلزم عليه أن تجزئ أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - عن آل النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كانوا، وإن لم يكونوا في بيته، ثم يلزم عليه ألا يدخل أزواجه فيهم; فإنهم ليسوا آلا له على الحقيقة اللغوية. وقد تقدم القول على آل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الزكاة. والذي يظهر لي: أن الحجة للجمهور على ذلك: ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى عن نسائه ببقرة، وروي: بالبقر. وأيضا فلم يرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر كل واحدة من نسائه بأضحية، ولو كان ذلك لنقل؛ لتكرار سني الضحايا عليهن معه، ولكثرتهن. فالعادة تقتضي أن ذلك لو كان لنقل كما نقل غير ذلك من جزئيات أحوالهن، فدل ذلك على أنه كان يكتفي بما يضحي عنه وعنهن. والله تعالى أعلم.

                                                                                              [ ص: 365 ] وقد روى الترمذي عن عطاء بن يسار ، قال: سألت أبا أيوب الأنصاري : كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون، ويطعمون، حتى تباهى الناس فيها كما ترى . قال: هذا حديث حسن صحيح.

                                                                                              قال القاضي : وضبط من يصح أن يدخله الرجل في الأضحية عندنا بثلاث صفات:

                                                                                              أحدها: أن يكونوا من قرابته، وحكم الزوجين وأم الولد حكمهم عند مالك والكافة. وأباه الشافعي في أم الولد، وقال: لا أجيز لها، ولا للمكاتب، والمدبر، والعبد أن يضحوا.

                                                                                              والثاني: أن يكونوا في نفقته، وجبت عليه أو تطوع بها.

                                                                                              والثالث: أن يكونوا في بيته، ومساكنته غير نائين عنه.

                                                                                              فإن انخرم شيء من هذه الشروط لم يصح اشتراكهم في ضحيته. قال: ولا يجوز عند جميعهم شركة جماعة في ضحية يشترونها، ويذبحونها عن أنفسهم، أو في هدي إذا كانوا أكثر من سبعة. واختلفوا فيما دونها. فمذهب الليث ، ومالك : أن الشركة لا تجوز بوجه فيها; كانت بدنة، أو بقرة، أو شاة، أهدوا أو ضحوا. وذهب جمهور العلماء من الحجازيين، والكوفيين، والشاميين: إلى جواز إشراك السبعة فما دون ذلك في البقرة، والبدنة، في الهدي والضحية، ولا تجزئ شاة إلا عن واحد.

                                                                                              وقد حصل من مجموع حديث عائشة وأنس وجابر أن الأولى في الأضحية نهاية الكمال في الخلق والصفة. وهو متفق عليه، وأن الوجاء ليس منقصا; لأنه وإن كان نقصان عضو، فإنه يصلح اللحم ويطيبه. وقد قلنا: إن الطيب في الأضحية هو المقصود الأول. وأما العيوب المنقصة، فقال القاضي : أجمعوا أن العيوب الأربعة المذكورة في حديث البراء ; من: المرض، والعجف، والعور، [ ص: 366 ] والعرج، لا تجزئ بها الضحية. وكذلك ما هو من نوعها أشنع، كالعمى، وقطع الرجل. واختلف فيما عدا ذلك. فذهب قوم إلى أنها تجزئ بكل عيب غير هذه الأربعة; إذ لم ينص النبي - صلى الله عليه وسلم - على غيرها، وهو موضع بيان. وبه قال بعض أئمتنا البغداديين. وذهب الجمهور إلى اعتبار ما كان نقصا وعيبا، ثم اختلفوا في أعيانها على ما ترتب في كتب الفقه.

                                                                                              قال: ولم يخرج البخاري ، ولا مسلم حديث عيوب الضحايا; لأنه مما تفرد به عبيد بن فيروز عن البراء ، ولا يعرف إلا بهذا الحديث. وقد أدخله مالك في "الموطأ" لما صحبه عنده العمل من المسلمين، ولاتفاقهم على قبوله.

                                                                                              قلت: يعني القاضي : حديث البراء الذي خرجه مالك عن عمرو بن الحارث المصري عن عبيد بن فيروز ، عن البراء بن عازب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل: ماذا يتقى من الضحايا؟ فأشار بيده وقال: (أربع... ) ، وذكر الحديث. وهذا الحديث صحيح، وانفراد الثقة به لا يضره، وإنما لم يخرجه البخاري ولا مسلم ; لأنه ليس على ما شرطاه في كتابيهما، وقد خرجه النسائي ، والترمذي ، وقال: حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبيد بن فيروز .

                                                                                              وكذلك خرج النسائي أيضا حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من طرق قال فيه: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن، وألا نضحي بعوراء، ولا مقابلة، ولا مدابرة، ولا شرقاء، ولا خرقاء. وفي أخرى: ولا بتراء. وفي أخرى: ولا جدعاء . وصححه الترمذي .

                                                                                              وقوله: أمرنا أن نستشرف العين والأذن. أي: نرفع نظرنا إلى ذلك، ونختار السالم من عيوب ذينك. ثم فسر ذلك [ ص: 367 ] بقوله: ولا نضحي بعوراء، وبما بعده.

                                                                                              و(المقابلة) هي: التي يقطع بعض أذنها، ويترك معلقا على وجهها. و(المدابرة): أن يترك معلقا إلى خلفها. و(الشرقاء) هي: المشقوقة الأذن طولا. و(الخرقاء): التي خرق من غير شق. و(الجدعاء): المقطوعة الأذن. وظاهر عطف هذه العيوب على العوراء - وهي لا تجزئ باتفاق - ألا تجزئ الأضحية مع شيء من هذه العيوب. وهو أصل الظاهرية، لكن لما كانت العوراء مقيدة بالبين عورها، كما قال في حديث البراء تحققنا: أن المنهي عنه من هذه العيوب ما تفاحش منها، ولا شك أن ما أذهب الأذن من هذه الأمور، أو جلها، لا تجزئ به، وما لم يكن كذلك، فقال أصحابنا في المقطوع بعض أذنها: إن زاد القطع على الثلث منع الإجزاء، وإن نقص عنه أجزأت. واختلف في الثلث: هل يجزئ أو لا؟ على قولين. وكذلك القول في البتراء، والنظر في آحاد العيوب، وتفصيل الخلاف يستدعي تطويلا، فلنقتصر على ما ذكرناه.




                                                                                              الخدمات العلمية