الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 7014 ) مسألة : قال : ( فإن كان بينهم عداوة ولوث ، فادعى أولياؤه على واحد ، حلف الأولياء على قاتله خمسين يمينا ، واستحقوا دمه إذا كانت الدعوى عمدا ) الكلام في هذه المسألة في فصول أربعة : ( 7015 ) الفصل الأول : في اللوث المشترط في القسامة ، واختلفت الرواية عن أحمد فيه ، فروي عنه أن اللوث هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه ، كنحو ما بين الأنصار ويهود خيبر ، وما بين القبائل ، والأحياء ، وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب ، وما بين أهل البغي وأهل العدل ، وما بين الشرطة واللصوص ، وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله . نقل مهنا عن أحمد ، فيمن وجد قتيلا في المسجد الحرام ، ينظر من بينه وبينه في حياته شيء . يعني ضغنا يؤخذون به .

                                                                                                                                            ولم يذكر القاضي في اللوث غير العداوة ، إلا أنه قال في الفريقين يقتتلان ; فينكشفون عن قتيل ، فاللوث على الطائفة واللوث على طائفة القتيل التي القتيل من غيرها ، سواء كان القتلى بالتحام ، أو مراماة بالسهام ، وإن لم تبلغ السهام فاللوث . إذا ثبت هذا ، فإنه لا يشترط مع العداوة أن لا [ ص: 385 ] يكون في الموضع الذي به القتيل غير العدو . نص عليه أحمد ، في رواية مهنا التي ذكرناها . وكلام الخرقي يدل عليه أيضا . واشترط القاضي أن يوجد القتيل في موضع عدو لا يختلط بهم غيرهم . وهذا مذهب الشافعي ; لأن الأنصاري قتل في خيبر ولم يكن فيها إلا اليهود ، وجميعهم أعداء . ولأنه متى اختلط بهم غيرهم ، احتمل أن يكون القاتل ذلك الغير .

                                                                                                                                            ثم ناقض القاضي قوله ، فقال في قوم ازدحموا في مضيق ، فافترقوا عن قتيل : إن كان في القوم من بينه وبينهم عداوة ، وأمكن أن يكون هو قتله ; لكونه بقربه ، فهو لوث . فجعل العداوة لوثا مع وجود غير العدو . ولنا ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الأنصار : هل كان بخيبر غير اليهود أم لا ؟ مع أن الظاهر وجود غيرهم فيها ; لأنها كانت أملاكا للمسلمين ، يقصدونها لأخذ غلات أملاكهم منها ، وعمارتها ، والاطلاع عليها ، والامتيار منها ، ويبعد أن تكون مدينة على جادة تخلو من غير أهلها . وقول الأنصار : ليس لنا بخيبر عدو إلا يهود . يدل على أنه قد كان بها غيرهم ممن ليس بعدو ; ولأن اشتراكهم في العداوة ، لا يمنع من وجود اللوث في حق واحد ، وتخصيصه بالدعوى مع مشاركة غيره في احتمال قتله ; فلأن لا يمنع ذلك وجود من يبعد منه القتل أولى .

                                                                                                                                            وما ذكروه من الاحتمال ، لا ينفي اللوث ، فإن اللوث لا يشترط فيه يقين القتل من المدعى عليه ، ولا ينافيه الاحتمال ، ولو تيقن القتل من المدعى عليه ، لما احتيج إلى الأيمان ، ولو اشترط نفي الاحتمال ; لما صحت الدعوى على واحد من جماعة ; لأنه يحتمل أن القاتل غيره ، ولا على الجماعة كلهم ; لأنه يحتمل أن لا يشترك الجميع في قتله . والرواية الثانية ، عن أحمد ، أن اللوث ما يغلب على الظن صدق المدعي ، وذلك في دار أو غيرها ، من وجوه ; أحدها ، العداوة المذكورة . والثاني : أن يتفرق جماعة عن قتيل ، فيكون ذلك لوثا في حق كل واحد منهم ، فإن ادعى الولي على واحد فأنكر كونه مع الجماعة ، فالقول قوله مع يمينه . ذكره القاضي . وهو مذهب الشافعي ; لأن الأصل عدم ذلك ، إلا أن يثبت ببينة .

                                                                                                                                            الثالث : أن يزدحم الناس في مضيق ، فيوجد فيهم قتيل ، فظاهر كلام أحمد ، أن هذا ليس بلوث ، فإنه قال فيمن مات بالزحام يوم الجمعة : فديته في بيت المال . وهذا قول إسحاق . وروي ذلك عن عمر وعلي ; فإن سعيدا روى في " سننه " ، عن إبراهيم ، قال : قتل رجل في زحام الناس بعرفة ، فجاء أهله إلى عمر ، فقال : بينتكم على من قتله . فقال علي : يا أمير المؤمنين ، لا يطل دم امرئ مسلم ، إن علمت قاتله ، وإلا فأعط ديته من بيت المال .

                                                                                                                                            وقال أحمد ، فيمن وجد مقتولا في المسجد الحرام : ينظر من كان بينه وبينه شيء في حياته يعني عداوة يؤخذون . فلم يجعل الحضور لوثا ، وإنما جعل اللوث العداوة . وقال الحسن ، والزهري ، فيمن مات في الزحام : ديته على من حضر ; لأن قتله حصل منهم . وقال مالك : دمه هدر ; لأنه لا يعلم له قاتل ، ولا وجد لوث ; فيحكم بالقسامة وقد روي عن عمر بن عبد العزيز ، أنه كتب إليه في رجل وجد قتيلا ، لم يعرف قاتله ، فكتب إليهم : إن من القضايا قضايا لا يحكم فيها إلا في الدار الآخرة ، وهذا منها . الرابع ، أن يوجد قتيل لا يوجد بقربه إلا رجل معه سيف أو سكين ملطخ بالدم ، ولا يوجد غيره ممن يغلب على الظن أنه قتله ، مثل أن يرى رجلا هاربا يحتمل أنه القاتل أو سبعا يحتمل ذلك فيه . الخامس : أن يقتتل فئتان ، فيفترقون عن قتيل من إحداهما ، فاللوث على الأخرى . ذكره القاضي . فإن كانوا [ ص: 386 ] بحيث لا تصل سهام بعضهم بعضا ، فاللوث على طائفة القتيل . هذا قول الشافعي .

                                                                                                                                            وروي عن أحمد ، أن عقل القتيل على الذين نازعوهم فيما إذا اقتتلت الفئتان ، إلا أن يدعوا على واحد بعينه . وهذا قول مالك . وقال ابن أبي ليلى : على الفريقين جميعا ; لأنه يحتمل أنه مات من فعل أصحابه ، فاستوى الجميع فيه . وعن أحمد في قوم اقتتلوا ، فقتل بعضهم ، وجرح بعضهم : فدية المقتولين على المجروحين ، تسقط منها دية الجراح . وإن كان فيهم من لا جرح فيه ، فهل عليه من الديات شيء ؟ على وجهين ، ذكرهما ابن حامد . السادس ، أن يشهد بالقتل عبيد أو نساء ، فهذا فيه عن أحمد روايتان ; إحداهما ، أنه لوث ; لأنه يغلب على الظن صدق المدعي في دعواه ، فأشبه العداوة . والثانية ، ليس بلوث ; لأنها شهادة مردودة ، فلم تكن لوثا ، كما لو شهد به كفار .

                                                                                                                                            وإن شهد به فساق أو صبيان ، فهل يكون لوثا ؟ على وجهين ; أحدهما ، ليس بلوث ; لأنه لا يتعلق بشهادتهم حكم ، فلا يثبت اللوث بها ، كشهادة الأطفال والمجانين . والثاني : يثبت بها اللوث ; لأنها شهادة تغلب على الظن صدق المدعي ، فأشبه شهادة النساء والعبيد ، وقول الصبيان معتبر في الإذن في دخول الدار ، وقبول الهدية ، ونحوها . وهذا مذهب الشافعي . ويعتبر أن يجيء الصبيان متفرقين ; لئلا يتطرق إليهم التواطؤ على الكذب . فهذه الوجوه قد ذكر عن أحمد ، أنها لوث ; لأنها تغلب على الظن صدق المدعي ، أشبهت العداوة .

                                                                                                                                            وروي أن هذا ليس بلوث ، وهو ظاهر كلامه في الذي قتل في الزحام ; لأن اللوث إنما يثبت بالعداوة بقضية الأنصاري القتيل بخيبر ، ولا يجوز القياس عليها ; لأن الحكم ثبت بالمظنة ، ولا يجوز القياس في المظان ; لأن الحكم إنما يتعدى بتعدي سببه ، والقياس في المظان جمع بمجرد الحكمة وغلبة الظنون ، والحكم والظنون تختلف ولا تأتلف ، وتنخبط ولا تنضبط ، وتختلف باختلاف القرائن والأحوال والأشخاص ، فلا يمكن ربط الحكم بها ، ولا تعديته بتعديها ، ولأنها يعتبر في التعدية والقياس التساوي بين الأصل والفرع في المقتضي ، ولا سبيل إلى يقين التساوي بين الظنين مع كثرة الاحتمالات وترددها ، فعلى هذه الرواية ، حكم هذه الصور حكم غيرها ، مما لا لوث فيه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية