الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          [ ص: 108 ] باب التعزير وهو التأديب . وهو واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة ، كالاستمتاع الذي لا يوجب الحد ، وإتيان المرأة المرأة وسرقة ما لا يوجب القطع ، والجناية على الناس بما لا قصاص فيه ، والقذف بغير الزنا ونحوه ، ومن وطئ أمة امرأته فعليه الحد ، إلا أن تكون قد أحلتها له ، فيجلد مائة ، وهل يلحقه نسب ولدها ؛ على روايتين . ولا يسقط الحد بالإباحة في غير هذا الموضع ، ولا يزاد في التعزير على عشر جلدات في غير هذا الموضع ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : لا يجلد أحد فوق عشر جلدات ، إلا في حد من حدود الله تعالى وعنه : ما كان سببه الوطء ، كوطء جاريته المشتركة والمزوجة ونحوهما ؛ ضرب مائة ، ويسقط عنه النفي . وكذلك يتخرج فيمن أتى بهيمة ، وغير الوطء لا يبلغ به أدنى الحدود .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          باب التعزير .

                                                                                                                          التعزير في اللغة : المنع ، يقال : عزرته ، أي : منعته ، ومنه سمي التأديب ، ولأنه يمنع من تعاطي القبيح ، ومنه : التعزير بمعنى النصرة ، لأنه منع لعدوه من أذاه ، وقال السعدي : يقال : عزرته ووقرته ، وأيضا أدبته ، وهو من الأضداد ، وهو طريق إلى التوقير ، لأنه إذا امتنع به وصرف عن الدناءة حصل له الوقار والنزاهة ( وهو التأديب ) فبيان لمعنى التعزير ، وفسره في المغني بالعقوبة المشروعة على جناية لا حد فيها ، وهو قريب مما ذكره هنا ، قاله ابن المنجا ، وفيه نظر ( وهو واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة ) وكذا ذكره في المحرر والوجيز وغيرهما من كتب الأصحاب ، قال الشيخ تقي الدين : إن عنى به فعل المحرمات وترك الواجبات فاللفظ جامع ، وإن عنى فعل المحرمات فقط ، فغير جامع ، بل التعزير على ترك الواجبات أيضا ، ولأن المعصية تفتقر إلى ما يمنع من فعلها ، فإذا لم يجب فيها حد ولا كفارة وجب أن يشرع فيها التعزير ، لتحقيق المانع من فعلها ، وفي الشرح : هو واجب إذا رآه الإمام فيما شرع فيه التعزير ، وعنه : يعزر المكلف ندبا ، نص عليه في تعزير رقيقه على معصية وشاهد زور ، وفي الواضح : في وجوب التعزير روايتان ، والأشهر كما ذكره المؤلف ونص عليه الإمام في سب صحابي كحد ، وكحق آدمي طلبه ، وقولنا : ولا كفارة فيه ، فائدته في الظهار وشبه العمد ، لكن يقال : يجب التعزير فيه ، لأن الكفارة حق الله تعالى [ ص: 109 ] بمنزلة الكفارة في الخطأ ليست لأجل الفعل ، بل بدل النفس الفائتة ، فأما نفس الفعل المحرم الذي هو الجناية فلا كفارة فيه ، ويظهر هذا بما لو جنى عليه ، فلم يتلف شيئا ، استحق التعزير ، ولا كفارة ، ولو أتلف بلا جناية لوجبت الكفارة بلا تعزير ، وإنما الكفارة في شبه العمد بمنزلة الكفارة على المجامع في الصيام والإحرام ، لا في اليمين الغموس ، إذ وجبت الكفارة لاختلاف سببها ، لأن سبب الكفارة الحنث ، ويمين الغموس كذبة نزلت منزلة الحنث ، وسبب التعزير شيء آخر ، وهو إقدامه على الحلف كذبا ، وحاصله أن ما كان من التعزير منصوصا عليه وجب ، وما لم يكن ورأى الإمام المصلحة فيه وجب كالحد ، وإن رأى العفو جاز للأخبار ، وإن كان لحق آدمي فطلبه لزمه إجابته ، وفي الكافي : يجب التعزير في موضعين ورد الخبر فيهما ، وما عداهما إلى اجتهاد الإمام ، فإن جاء تائبا معترفا قد أظهر الندم والإقلاع جاز ترك تعزيره ، وإلا وجب ، وقال القاضي ومن تبعه : إلا إذا شتم نفسه أو سبها ، ولا يحتاج إلى مطالبة ( كالاستمتاع الذي لا يوجب الحد ) لأنه عليه السلام جعله سيئة ( وإتيان المرأة المرأة ) لقوله عليه السلام : إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان ( وسرقة ما لا يوجب القطع ) لدخوله في قوله عليه السلام : لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه ( والجناية على الناس بما لا قصاص فيه ) لأنه تعد على الغير ، أشبه التي فيها القصاص ، لا يقال : القياس القصاص في ذلك أيضا ، والتقدير خلافه ، لأنه تعذر القصاص لمعنى يختص به ، وهو لا يمنع من ثبوت الحرمة ، لأن الجناية تقتضي الإيجاب مطلقا ، ترك العمل به لما ذكرنا ، فيبقى [ ص: 110 ] ما عداه على مقتضاه ( والقذف بغير الزنا ) بأن يرميه بالكذب ، أو بالفسق ، فعلى هذا : إن تشاتم اثنان عزرا ، ويحتمل عدمه ، فدل أن ما رآه تعين ، فلا يبطله غيره ، وأنه يتعين قدر تعزير عينه ( ونحوه ) روي عن علي أنه سئل عن قول الرجل لآخر : يا خبيث ، قال : هو فاسق ، فيه تعزير ، وهذا كله معصية لله تعالى ، لأنه إما جناية على الشرع ، أو على آدمي ، والجناية على الآدمي عمدا محرمة وفاعلها مقدم على مخالفة الله تعالى بأذى المسلمين ، فيكون واجبا كالحد ( ومن وطئ أمة امرأته فعليه الحد ) لحديث النعمان بن بشير ، ولأنه وطء في فرج في غير عقد ولا ملك ، فوجب عليه الحد كوطء زوجته ( إلا أن تكون قد أحلتها له فيجلد مائة ) ولا رجم ولا تغريب ، لما روى أحمد وأبو داود وغيرهما ، عن حبيب بن سالم : أن رجلا يقال له عبد الرحمن بن حنين وقع على جارية امرأته ، فرفع إلى النعمان بن بشير ، وهو أمير على الكوفة ، فقال : لأقضين فيك بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة ، وإن لم تكن أحلتها لك رجمتك . قال الترمذي : سألت محمدا عنه ، فقال : أنا أتقي هذا الحديث ، وقال الخطابي : ليس بمتصل ، وقال غيره : رجاله ثقات ، إلا حبيب بن سالم ، قال البخاري : فيه نظر ، وقد روى له مسلم ، ووثقه أبو حاتم ، وعنه : يعزر مائة إلا سوطا ، وعنه يعزر بعشر ( وهل يلحقه نسب ولدها ؛ على روايتين ) .

                                                                                                                          إحداهما : يلحقه ، جزم بها في الوجيز كوطء الجارية المشتركة .

                                                                                                                          والثانية : لا يلحقه الولد ، نقله الجماعة ، قال أبو بكر : العمل عليه ، لأنه وطء لا في ملك ، ولا شبهة ملك ، أشبه الزنا المحض ، وقال الشيخ تقي [ ص: 111 ] الدين : إن ظن جوازه لحقه ، وإلا فروايتان فيه ، وفي حده ، وعنه : يحد فلا يلحقه لعدم حلها ، ولو ظن حلها ، نقله مهنا ( ولا يسقط الحد بالإباحة ) لعموم النصوص الدالة على وجوب الحد على الزاني ( في غير هذا الموضع ) وهو إباحة الزوجة أمتها لزوجها ، وإنما سقط الحد هنا لحديث النعمان .

                                                                                                                          تنبيه : نقل الميموني فيمن زنى صغيرا ، لم ير عليه شيئا ، ونقل ابن منصور في صبي قال لرجل : يا زاني ، ليس قوله شيئا ، وكذا في التبصرة : أنه لا يعزر ، وذكر الشيخ تقي الدين : المكلف كالصبي المميز ، يعاقب على الفاحشة تعزيرا بليغا ، وكذا المجنون يضرب على ما فعل لينزجر ، لكن لا عقوبة بقتل أو قطع ، وفي الواضح : من بلغ عشرا صلح تأديبه في تعزير على طهارة وصلاة ، ومثله زناه ، وهو ظاهر كلام القاضي ، وظاهر ما نقله الشالنجي في الغلمان ، يتمردون لا بأس بضربهم ، وأما القصاص مثل أن يظلم صبي صبيا ، أو مجنون مجنونا ، أو بهيمة بهيمة ، فيقتص للمظلوم من الظالم ، وإن لم يكن في ذلك زجر عن المستقبل ، لكن لاشتفاء المظلوم وأخذ حقه ، قال في الفروع : فيتوجه أن يقال : يفعل ذلك ، ولا يخلو عن ردع وزجر ، وأما في الآخرة ، فإن الله تعالى يقول ذلك للعدل بين خلقه ، قال ابن حامد : القصاص بين البهائم والشجر والعيدان جائز شرعا بإيقاع مثل ما كان في الدنيا ، وكما قال أبو محمد البربهاري في القصاص من الحجر : لم نكب أصبع الرجل ؛ قال الشيخ تقي الدين : القصاص موافق لأصول الشريعة ( ولا يزاد في التعزير على عشر جلدات في غير هذا الموضع ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : لا يجلد أحد فوق عشر جلدات إلا [ ص: 112 ] في حد من حدود الله تعالى ) متفق عليه من حديث أبي بردة ، ونص عليه أحمد في مواضع ، وجزم به في الوجيز ، والمراد عند الشيخ تقي الدين : إلا في محرم لحق الله تعالى ، وعنه : يتبع ، قال بعضهم : ولا وجه له ، وعنه : لا يبلغ به الحد ، جزم به الخرقي ، وقدمه في المذهب والمحرر ، فيحتمل أنه أدنى حد مشروع ، وهو قول الأكثر ، ويحتمل أن لا يبلغ بكل جناية حدا مشروعا في جنسها ، ويجوز أن يزيد على حد غير جنسها ( وعنه : ما كان سببه الوطء ، كوطء جاريته المشتركة والمزوجة ونحوهما ) كجارية ولده أو أحد أبويه ، والمحرمة برضاع وميتة عالما بتحريمه ( ضرب مائة ) لما سبق من حديث النعمان في وطء جارية امرأته بإذنها ، فيتعدى إلى وطء أمته المشتركة والمزوجة ، لأنها في معناها ، وعن سعيد بن المسيب أن عمر قال في أمة بين رجلين وطئها أحدهما : يجلد الحد إلا سوطا . رواه الأثرم ، واحتج به أحمد ، والمذهب كما قاله القاضي أنه لا يزاد على عشر فأقل ، إلا في وطء أمة مشتركة ، فيعزر حر بمائة إلا سوطا ، نقله الجماعة ، وما عداه يبقى على العموم ، لحديث أبي بردة ، قال في المغني والشرح : وهذا قول حسن ( ويسقط عنه النفي ) أي : يضرب مائة جلدة بلا نفي ، وله نقصه ، ويرجع في أقله إلى اجتهاد الإمام ، مع أنه اختار طائفة من أصحابنا أنه يقتل للحاجة ، وأنه يقتل مبتدع داعية ، ونقله إبراهيم بن سعيد الأطروش في الدعاة من الجهمية ، وعن أحمد ، وكذا كل وطء في فرج ، وهي أشهر عند جماعة ، وعنه : أو دونه ، نقله يعقوب ، جزم به في المذهب والمحرر وغيرهما ، واحتج بأن عليا وجد رجلا مع امرأة في [ ص: 113 ] لحافها ، فضربه مائة ، والعبد بخمسين إلا سوطا ( وكذلك يتخرج فيمن أتى بهيمة ) إذا قلنا : إنه لا يحد ، بل يعزر ، لأنه وطء في فرج أشبه وطء أمة امرأته ( وغير الوطء لا يبلغ به أدنى الحدود ) لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين . وكتب عمر إلى أبي موسى : لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود .

                                                                                                                          تنبيه : التعزير يكون بضرب ، وحبس ، وتوبيخ ، وقيل : في حق الله تعالى وحده ، ولا يقطع عضوا ، ولا يجرحه ، ولا يأخذ ماله ، وإن عفا عنه مستحق الحد سقط مع التعزير ، وإن عفا مستحق التعزير لم يسقط .

                                                                                                                          فائدة : من عرف بأذى الناس حتى بعينه حبس حتى يموت أو يتوب ، قاله ابن حمدان ، قال القاضي : للوالي فعله ، وفي الترغيب : للإمام حبس العائن ، قال بعضهم : ولا يبعد أن يقتل إذا كان يقتل بها غالبا ، وفيه نظر .




                                                                                                                          الخدمات العلمية