الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          فصل الثالث : أن يقطع الحلقوم والمريء ، وعنه : يشترط مع ذلك قطع الودجين ، وإن نحره أجزأه ، وهو أن يطعنه بمحدد في لبته ، والمستحب أن ينحر البعير ، ويذبح ما سواه ، فإن عجز عن ذلك ، مثل أن يند البعير ، أو يتردى في بئر ، فلا يقدر على ذبحه ، صار كالصيد ، إذا جرحه في أي موضع أمكنه ، فقتله حل أكله ، إلا أن يموت بغيره ، مثل أن يكون رأسه في الماء ، فلا يباح ، وإن ذبحها من قفاها وهو مخطئ ، فأتت السكين على موضع ذبحها ، وهي في الحياة أكلت ، وإن فعله عمدا ، فعلى وجهين . وكل ما وجد فيه سبب الموت ، كالمنخنقة ، والمتردية ، والنطيحة ، وأكيلة السبع ، إذا أدرك ذكاتها وفيها حياة مستقرة أكثر من حركة المذبوح حلت ، وإن صارت حركتها كحركة المذبوح لم تحل .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          فصل .

                                                                                                                          ( الثالث : أن يقطع ) من الحيوان المقدور عليه ( الحلقوم والمريء ) وهي : الوهدة التي تربط بين أصل العنق والصدر ، ولا يجوز في غير ذلك إجماعا ، قال [ ص: 218 ] عمر : النحر في اللبة ، والحلق لمن قدر ، احتج به أحمد ، وروى سعيد ، والأثرم ، عن أبي هريرة قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم بديل بن ورقاء يصيح في فجاج بيتنا : ألا إن الذكاة في الحلق واللبة . رواه الدارقطني بإسناد جيد . وأما حديث أبي العشراء عن أبيه ، قال : قلت : يا رسول الله ، أما تكون الذكاة في الحلق واللبة ؛ قال : لو طعنت في فخذها لأجزأك . رواه أحمد . وقال أبو العشراء ليس بمعروف ، وحديثه غلط ، وأبو داود والترمذي ، وقال : غريب ، وقال البخاري : في حديثه ، واسمه ، وسماعه من أبيه نظر ، وقال المجد في أحكامه : هذا فيما لم يقدر عليه ، فعلى هذا يشترط قطع الحلقوم والمريء ، وهما مجرى الطعام والنفس ، اختاره الخرقي ، وقدمه في " الرعاية " ، و " الكافي " ، وذكر أنه أولى ، ورجحه في " الشرح " ، لأنه قطع في محل الذبح ما لا تبقى الحياة معه ، أشبه ما لو قطع الأربعة ، واختص الذبح بالمحل المذكور ، لأنه مجمع العروق بالذبح فيه الدماء السيالة ، ويسرع زهوق الروح ، فيكون أطيب للحم ، وأخف على الحيوان ( وعنه : يشترط مع ذلك قطع الودجين ) اختاره أبو محمد الجوزي ، وجزم به في " الروضة " ، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان ، وهي التي تذبح فتقطع الجلد ، ولا تفري الأوداج ، رواه أبو داود ، وقال سعيد : ثنا إسماعيل بن زكريا ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز ، عن ابن عباس قال : إذا أهريق الدم وقطع الودج فكل ، إسناده حسن ، وهما عرقان محيطان بالحلقوم ، وعنه : أو أحدهما ، وفي " الإيضاح " : الحلقوم والودجين ، وفي " الإرشاد " : المريء والودجين ، وفي " الكافي " ، و " الرعاية " : يكفي قطع الأوداج وحدها ، لكن لو قطع أحدهما مع الحلقوم أو المريء أولى بالحل ، قاله الشيخ تقي الدين ، وذكر وجها : يكفي [ ص: 219 ] قطع ثلاث من الأربعة ، وظاهره : لا يضر رفع يده إن أتم الذكاة على الفور ، واعتبر في " الترغيب " قطعا تاما ، فلو بقي من الحلقوم جلدة ، ولم ينفذ القطع ، وانتهى الحيوان إلى حركة المذبوح ثم قطع الجلدة لم يحل .

                                                                                                                          فرع : إذا أبان رأسه بالذبح ، لم يحرم به المذبوح قدمه في " المحرر " ، وأكله مباح ، قاله في " المستوعب " ، وفي " الرعاية " : يكره ويحل ، وعنه : لا يحل ، والأول المذهب ، قال أحمد : لو أن رجلا ضرب رأس بطة ، أو شاة بالسيف يريد بذلك الذبيحة كان له أن يأكل ، روي عن علي ، وعمران ، لأنه اجتمع قطع ما لا تبقى الحياة معه مع الذبح ( وإن نحره أجزأه ) أي : إذا نحر ما يذبح أجزأه في قول الأكثر كعكسه ، لقوله عليه السلام : ما أنهر الدم ، وذكر اسم الله عليه فكل وقالت أسماء : نحرنا فرسا ، وفي رواية : ذبحنا ، وقالت عائشة : نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بقرة ، ولأنه ذكاه في محله ، فجاز أكله كالحيوان الآخر ، ونقل ابن أبي موسى أنه توقف في ذبح البقر ، قال : والأول عنه أظهر ، وعنه : يكره ذبح إبل ، وعنه : ولا تؤكل ( وهو أن يطعنه بمحدد في لبته ) فبيان لمعنى النحر ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هكذا يفعلون ، ونقل الميموني : أن ابن عباس ، وابن عمر قالا : النحر في اللبة ، والذبح في الحلق ، والذبح والنحر في البقر واحد ( والمستحب أن ينحر البعير ، ويذبح ما سواه ) بغير خلاف ، قاله في " الشرح " ، لقوله تعالى : فصل لربك وانحر ] الكوثر : 2 [ ولقوله تعالى : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ] البقرة : 67 [ وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنحر ، لأن أغلب ماشية قومه الإبل ، وأمر بنو إسرائيل بالذبح ، لأن غالب ماشيتهم البقر ، ولأنه عليه السلام نحر البدن ، وذبح كبشين أملحين بيده ، [ ص: 220 ] متفق عليه . وفي " الترغيب " رواية : ينحر البقر ، وعند ابن عقيل : إن ما صعب وضعه في الأرض نحر ( فإن عجز عن ذلك مثل أن يند البعير ) أي : إذا ذهب على وجهه شاردا ( أو يتردى ) أي : يسقط ( في بئر فلا يقدر على ذبحه ، صار كالصيد إذا جرحه في أي موضع أمكنه فقتله حل أكله ) روي عن علي ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة ، وقاله أكثر العلماء ، لما روى رافع بن خديج ، قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فند بعير ، وفي القوم خيل يسيرة ، فطلبوه فأعياهم ، فأهوى إليه رجل بسهم ، فقال النبي : صلى الله عليه وسلم : إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش ، فما غلبكم فاصنعوا به هكذا . متفق عليه . ولأن الاعتبار في الذكاة بحال الحيوان وقت ذبحه ، لا بأصله ، بدليل الوحشي إذا قدر عليه وجبت ذكاته في الحلق ، واللبة ، فكذلك الأهلي إذا توحش ، وذكر أبو الفرج : يقتل مثله غالبا ، وقال مالك : لا يجوز أكله ، إلا أن يذكى ، قال أحمد : لعله لم يبلغه حديث رافع ( إلا أن يموت بغيره ، مثل أن يكون رأسه في الماء فلا يباح ) نص عليه ، وهو قول الأصحاب ، لأنه لا يعلم أن الذبح قتله ، ولأن الماء أعان على قتله فحرم ، كما لو جرح الصيد مسلم ومجوسي ، وقيل : يحل إن جرحه بجرح موح ( وإن ذبحها من قفاها وهو مخطئ ، فأتت السكين ) ولو عبر بالآلة لعم ( على موضع ذبحها وهي في الحياة ) أي : فيه حياة مستقرة ، ويعلم ذلك بوجود الحركة ، وعنه : أو لا ، وفي " المغني " : غلب بقاؤها ( أكلت ) قدمه في " المستوعب " و " الفروع " ، وجزم به في " المحرر " و " الوجيز " ، لأنها حلت بالذبح ، وفي " الترغيب " رواية : يحرم مع حياة مستقرة ، وهو ظاهر ما رواه جماعة .

                                                                                                                          [ ص: 221 ] ( وإن فعله عمدا فعلى وجهين ) وفي " المحرر " و " الفروع " : هما روايتان ، إحداهما : لا تباح ، روي عن علي ، وهو ظاهر الخرقي ، لأنه محل الذبح ، كما لو بقر بطنها . والثانية : تحل إذا بقيت فيها حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمريء ، وقاله القاضي ، وهي أصح ، لأن الذبح إذا أتى على ما فيه حياة مستقرة حل كالمتردية ، وعنه : ما يدل على إباحته مطلقا ، وفي " الشرح " : إن ذبحها من قفاها ، ولم يعلم هل كانت فيه حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمريء أو لا ، نظرت فإن كان الغالب بقاء ذلك ، لحدة الآلة وسرعة القطع ، فالأولى إباحته ، وإن كانت كآلة ، وأبطأ قطعه ، وطال تعذيبه لم يبح .

                                                                                                                          فرع : ملتو عنقه كمعجوز عنه ، قاله القاضي ، وقبل : حكمه كذلك . ( وكل ما وجد فيه سبب الموت كالمنخنقة ، والمتردية ، والنطيحة ، وأكيلة السبع إذا أدرك ذكاتها ، وفيها حياة مستقرة أكثر من حركة المذبوح حلت ) لقوله تعالى : إلا ما ذكيتم ] المائدة : 3 [ ، ولحديث جارية كعب ، ولما روى سعيد ، ثنا سفيان ، حدثني الزبير بن الربيع ، عن أبي طلحة الأسدي ، قال : أتيت ابن عباس ، فسمعته يقول في شاة وقع قصبتها ، أي : الأمعاء بالأرض ، فأدركها فذبحها بحجر ، يلقي ما أصاب الأرض ، ويأكل سائرها ، وسواء انتهت إلى حال يعلم أنها لا تعيش معه أو تعيش ، قاله في " الشرح " ، وقدم السامري : أنها إذا بلغت مبلغا لا تعيش لمثله لم تحل ، قال ابن هبيرة : هو أظهر الروايتين ، وذكره ابن أبي موسى : إن رجا حياتها حلت ، وفي " المحرر " و " الوجيز " : أنها تحل بشرط أن تتحرك عند الذبح ، ولو بيد ، أو رجل ، أو طرف ذنب ، وحكاه في " الفروع " قولا .

                                                                                                                          [ ص: 222 ] وقيل : أو لا ، ونقل الأثرم وغيره ما تيقن أنه يموت بالسبب ، وعنه : لدون أكثر يوم ، لم يحل . والصحيح : أنها إذا كانت تعيش زمانا يكون بالموت بالذبح أسرع منه حلت بالذبح ، وعنه : يحل مذكى قبل موته مطلقا ، وفي كتاب الآدمي البغدادي : وتشترط حياة يذهبها الذبح ، اختاره أبو محمد الجوزي ، وعنه : إن تحرك ، ذكره في " المبهج " ، ونقله عبد الله والمروذي وأبو طالب ، وفي " الترغيب " : لو ذبح وشك في الحياة المستقرة ، ووجد ما يقارب الحركة المعهودة في التذكية المعتادة ، حل في المنصوص ، ومرادهم بالحياة المستقرة ما جاز بقاؤها أكثر اليوم ( وإن صارت حركتها كحركة المذبوح لم تحل ) لأنه صار في حكم الميتة ، كما لو ذبحها بعد ذبح الوثني ، وكذا في " الكافي " ، وغيره .

                                                                                                                          فرع : ومريضة ، وما صيد بشبكة ، أو شرك ، أو أحبولة ، أو فخ ، أو أنقذه من مهلكة ، فهو كمنخنقة .




                                                                                                                          الخدمات العلمية