الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ المبحث الثالث ] في إمكان الاطلاع عليه وإذا ثبت أنه ممكن في نفسه ، فاختلفوا في إمكان الاطلاع عليه . فمنعه قوم لاتساع خطة الإسلام ، وانتشارهم في أقطار الأرض ، وتهاون الفطن ، وتعذر النقل المتواتر في تفاصيل لا تتوافر الدواعي على نقلها ، ولتعذر العلم ببقاء المعنى الأول إلى أن يفنى الآخر . والصحيح إمكانه عادة ، فقد اجتمع على الشبه خلق كثيرون زائدون على عدد أهل الإسلام ، فالإجماع على الحق مع ظهور أدلته أولى . نعم ، العادة منعت اجتماع الكافة ، فأما الخلق الكثير فلا تمنع العادة اتفاقهم بوجه ما .

                                                      واشتد نكير القاضي على من أنكر تصور وقوعه عادة ، وفصل إمام الحرمين بين كليات الدين . فلا يمنع من تصور الدواعي المستحثة ، وكما صوره القاضي في اجتماع أهل الضلالة ، وبين المسائل المظنونة مع تفرق [ ص: 383 ] العلماء وانتفاء الدواعي فلا تتصور عادة ، ونقل عن الإمام أحمد ما يقتضي إنكاره ، قال في رواية ابنه عبد الله : من ادعى الإجماع فقد كذب ، لعل الناس قد اختلفوا ، ولكن يقول : لا يعلم الناس اختلفوا إذ لم يبلغه . قال أصحابه : وإنما قال هذا على جهة الورع ; لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه ، أو قال هذا في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف ; لأن أحمد قد أطلق القول بصحة الإجماع في مواضع كثيرة ، وأجراه ابن حزم الظاهري على ظاهره .

                                                      وقال ابن تيمية : أراد غير إجماع الصحابة ; لأن إجماع الصحابة عنده حجة معلوم تصوره . أما من بعدهم فقد كثر المجتهدون ، وانتشروا . قال : وإنما قال ذلك ; لأنه كان يذكر الحديث فيعارض بالإجماع ، فيقول : إجماع من ؟ إجماع أهلالمدينة ؟ إجماع أهل الكوفة ؟ حتى قال : ابن علية والأصم يذكرون الإجماع . وجعل الأصفهاني موضع الخلاف في غير إجماع الصحابة ، وقال : الحق تعذر الاطلاع على الإجماع ، لا إجماع الصحابة ، حيث كان المجمعون ، وهم العلماء في قلة ، أما الآن وبعد انتشار الإسلام ، وكثرة العلماء ، فلا مطمع للعلم به . قال : وهو اختيار أحمد مع قرب عهده به من الصحابة ، وقوة حفظه ، وشدة اطلاعه على الأمور النقلية . قال : والمصنف يعلم أنه لا خبر له من الإجماع إلا ما يجده مكتوبا في الكتب ، ومن البين أنه لا يحصل [ ص: 384 ] الاطلاع عليه إلا بالسماع منهم ، أو بنقل أهل التواتر إلينا ، ولا سبيل إلى ذلك إلا في عصر الصحابة ، وأما بعدهم فلا . انتهى .

                                                      وعقد القاضي عبد الوهاب بابا في أن الإجماع يصح أن يعلم وقوعه وقال : من الناس من منع أن يكون للعلم به طريقة يعلم بها حصوله ، ثم زيفه . قال : والطريق شيئان . أحدهما : المشاهدة ، والآخر النقل . فإن كان الإجماع متقدما فليس إلا النقل ، لتعذر المشاهدة . وإن كان في الوقت فالأمران طريق إليه ، ووجه الحصر أنه لا يمكن أن يعلم بالعقل ، ولا بخبر من الله تعالى ورسوله عليه السلام ، لتعذره ، فتعين ما قلناه . وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في " شرح الترتيب " : نحن نعلم أن مسائل الإجماع أكثر من عشرين ألف مسألة . وبهذا يرد قول الملحدة إن هذا الدين كثير الاختلاف ، إذ لو كان حقا لما اختلفوا فيه ، فنقول : أخطأت بل مسائل الإجماع أكثر من عشرين ألف مسألة . ثم لها من الفروع التي يقع الاتفاق منها وعليها ، وهي صادرة عن مسائل الإجماع التي هي أصول أكثر من مائة ألف مسألة ، يبقى قدر ألف مسألة هي من مسائل الاجتهاد ، والخلاف في بعضها يحكم بخطأ المخالف على القطع وبفسقه ، وفي بعضها ينقض حكمه ، وفي بعضها يتسامح ، ولا يبلغ ما بقي من المسائل التي تبقى على الشبهة إلى مائتي مسألة . انتهى .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية