الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 631 ] [ انقسام المناسب انقسام المناسب باعتبار شهادة الشرع وعدمها إلى ثلاثة أقسام ]

                        ثم اعلم أن المناسب ينقسم باعتبار شهادة الشرع له ، بالملاءمة والتأثير وعدمها ، إلى ثلاثة أقسام; لأنه إما أن يعلم أن الشارع اعتبره ، أو يعلم أنه ألغاه أو لا يعلم واحد منهما .

                        ( القسم الأول ) : ما علم اعتبار الشرع له ، والمراد بالعلم الرجحان ، والمراد بالاعتبار إيراد الحكم على وفقه ، لا التنصيص عليه ، ولا الإيماء إليه ، وإلا لم تكن العلة مستفادة من المناسبة ، وهو المراد بقولهم : شهد له أصل معين .

                        قال الغزالي في شفاء الغليل : المعنى بشهادة أصل معين للوصف أنه مستنبط منه ، من حيث إن الحكم أثبت شرعا على وفقه .

                        وله أربعة أحوال; لأنه إما يعتبر نوعه في نوعه ، أو في جنسه ، أو جنسه في نوعه ، أو في جنسه .

                        ( الحالة الأولى ) : أن يعتبر نوعه في نوعه ، وهو خصوص الوصف في خصوص الحكم ، وعمومه في عمومه ، كقياس القتل بالمثقل على القتل بالجارح في وجوب القصاص ، بجامع كونه قتلا عمدا عدوانا ، فإنه قد عرف تأثير خصوص كونه قتلا عمدا في خصوص الحكم ، وهو وجوب القصاص في النفس في القتل بالمحدد .

                        ومثل هذا أن يقال : إنه إذا ثبت أن حقيقة السكر اقتضت حقيقة التحريم فالنبيذ يلحق بالخمر ; لأنه لا تفاوت بين العلتين ، وبين الحكمين ، وهذا القسم يسمى المناسب الملائم ، وهو متفق عليه بين القياسيين .

                        ( الحالة الثانية ) : أن يعتبر نوعه في جنسه ، كقياس تقديم الإخوة لأبوين على الإخوة لأب في النكاح على تقديمهم في الإرث ، فإن الإخوة من الأب والأم نوع واحد في الصورتين ، ولم يعرف تأثيره في التقديم في ولاية النكاح ، ولكن عرف تأثيره في جنسه ، وهو التقدم عليهم ، فيما ثبت لكل واحد منهم عند عدم الأمر ، كما في الإرث ، وهذا القسم دون ما قبله; لأن المفارقة بين المثلين بحسب اختلاف المحلين أقرب [ ص: 632 ] من المقارنة بين نوعين مختلفين .

                        ( الحالة الثالثة ) : أن يعتبر جنسه في نوعه ، كقياس إسقاط القضاء عن الحائض ، على إسقاط قضاء الركعتين الساقطتين عن المسافر ، بتعليل المشقة ، والمشقة جنس ، وإسقاط قضاء الصلاة نوع واحد ، يستعمل على صنفين ، إسقاط قضاء الكل ، وإسقاط قضاء البعض ، وهذا أولى من الذي قبله; لأن الإبهام في العلة أكبر محذورا من الإبهام في المعلول .

                        ( الحالة الرابعة ) : اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم ، وذلك كتعليل كون حد الشرب ثمانين بأنه مظنة القذف; لكونه مظنة الافتراء ، فوجب أن يقام مقامه قياسا على الخلوة ، فإنها لما كانت مظنة الوطء أقيمت مقامه ، وهذا كالذي قبله .

                        ( القسم الثاني ) : ما علم إلغاء الشرع له ، كما قال بعضهم بوجوب الصوم ابتداء في كفارة الملك الذي واقع في رمضان; لأن القصد منها الانزجار ، وهو لا ينزجر بالعتق ، فهذا وإن كان قياسا لكن الشرع ألغاه ، حيث أوجب الكفارة مرتبة من غير فصل بين المكلفين ، فالقول به مخالف للنص فكان باطلا .

                        ( القسم الثالث ) : ما لا يعلم اعتباره ولا إلغاؤه ، وهو الذي لا يشهد له أصل معين من أصول الشريعة بالاعتبار ، وهو المسمى بالمصالح المرسلة .

                        وقد اشتهر انفراد المالكية بالقول به قال الزركشي وليس كذلك فإن العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة ، ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك .

                        قال الفخر الرازي في المحصول وبالجملة فالأوصاف إنما يلتفت إليها إذا ظن التفات الشرع إليها ، وكلما كان التفات الشرع إليه أكثر ; كان ظن كونه معتبرا أقوى ، وكلما كان الوصف والحكم أخص; كان ظن كون ذلك الوصف معتبرا في حق ذلك الحكم آكد ، فيكون لا محالة مقدما على ما يكون أعم منه .

                        وأما المناسب الذي علم أن الشرع ألغاه ، فهو غير معتبر أصلا ، وأما المناسب الذي لا يعلم أن الشارع ألغاه أو اعتبره ، فذلك يكون بحسب أوصاف هي أخص من كونه وصفا مصلحيا ، وإلا فعموم كونه وصفا مصلحيا مشهود له بالاعتبار ، وهذا القسم المسمى بالمصالح المرسلة انتهى .

                        [ ص: 633 ] قال ابن الحاجب في مختصر المنتهى : وغير المعتبر هو المرسل ، فإن كان غريبا ، أو ثبت إلغاؤه فمردود اتفاقا . وإن كان ملائما فقد صرح الإمام والغزالي بقبوله ، وذكر عن مالك والشافعي ، والمختار رده ، وشرط الغزالي فيه أن تكون المصلحة ضرورية ، قطعية ، كلية ، انتهى .

                        وسنذكر للمصالح المرسلة بحثا مستقلا في الفصل السابع إن شاء الله .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية