الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              الباب الثالث : في الأدلة التي يخص بها العموم .

              لا نعرف خلافا بين القائلين بالعموم في جواز تخصيصه بالدليل إما بدليل العقل أو السمع أو غيرهما وكيف ينكر ذلك مع الاتفاق على تخصيص قوله تعالى : { خالق كل شيء } ، و { يجبى إليه ثمرات كل شيء } ، و { تدمر كل شيء } ، و { أوتيت من كل شيء } وقوله : { اقتلوا المشركين } ، و { والسارق والسارقة } ، و { الزانية والزاني } { وورثه أبواه } ، و { يوصيكم الله في أولادكم } { وفيما سقت السماء العشر } فإن جميع عمومات الشرع مخصصة بشروط في الأصل ، والمحل ، والسبب وقلما يوجد عام لا يخصص مثل قوله تعالى : { وهو بكل شيء عليم } فإنه باق على العموم .

              ، والأدلة التي يخص بها العموم أنواع عشرة : الأول دليل الحس ، وبه خصص قوله تعالى : { وأوتيت من كل شيء } فإن ما كان في يد سليمان لم يكن في يدها ، وهو شيء . وقوله تعالى : { تدمر كل شيء بأمر ربها } خرج منه السماء ، والأرض ، وأمور كثيرة بالحس .

              الثاني : دليل العقل ، وبه خصص قوله تعالى : { خالق كل شيء } إذ خرج عنه ذاته وصفاته إذ القديم يستحيل تعلق القدرة به وكذلك قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت } خرج منه الصبي ، والمجنون ; لأن العقل قد دل على استحالة تكليف من لا يفهم . فإن قيل كيف يكون العقل مخصصا ، وهو سابق على أدلة السمع ، والمخصص ينبغي أن يكون متأخرا ، ولأن التخصيص إخراج ما يمكن دخوله تحت اللفظ ، وخلاف المعقول لا يمكن أن يتناوله اللفظ ؟ قلنا : قال قائلون : لا يسمى دليل العقل مخصصا لهذا الحال ، وهو نزاع في عبارة فإن تسمية الأدلة مخصصة تجوز ، فقد بينا أن تخصيص العام محال لكن الدليل يعرف إرادة المتكلم ، وأنه أراد باللفظ الموضوع للعموم معنى خاصا ، ودليل العقل يجوز أن يبين لنا أن الله تعالى ما أراد بقوله { خالق كل شيء } نفسه ، وذاته ، فإنه ، وإن تقدم دليل العقل فهو موجود أيضا عند نزول اللفظ ، وإنما يسمى مخصصا بعد نزول الآية لا قبله .

              وأما قولهم : لا يجوز دخوله تحت اللفظ ، فليس كذلك بل يدخل تحت اللفظ من حيث اللسان ، ولكن يكون قائله كاذبا ، ولما وجب الصدق في كلام الله تعالى تبين أنه يمتنع دخوله تحت الإرادة مع شمول اللفظ له من حيث الوضع .

              الثالث دليل الإجماع ، ويخصص به العام ; لأن الإجماع قاطع لا يمكن الخطأ فيه ، والعام يتطرق إليه الاحتمال ، ولا تقضي الأمة في بعض مسميات العموم بخلاف موجب [ ص: 246 ] العموم إلا عن قاطع بلغهم في نسخ اللفظ الذي كان قد أريد به العموم أو في عدم دخوله تحت الإرادة عند ذكر العموم ، والإجماع أقوى من النص الخاص لأن النص الخاص محتمل نسخه ، والإجماع لا ينسخ ، فإنه إنما ينعقد بعد انقطاع الوحي .

              الرابع : النص الخاص يخصص اللفظ العام فقوله : : { فيما سقت السماء العشر يعم ما دون النصاب وقد خصصه قوله : عليه السلام : } لا زكاة فيما دون خمسة أوسق وقوله تعالى : { والسارق والسارقة } يعم كل مال ، وخرج ما دون النصاب بقوله : { لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا . } وقوله : { فتحرير رقبة } يعم الكافرة ، فلو ورد مرة أخرى { فتحرير رقبة مؤمنة } في الظهار بعينه لتبين لنا أن المراد بالرقبة المطلقة العامة هي المؤمنة على الخصوص .

              وقد ذهب قوم إلى أن الخاص ، والعام يتعارضان ، ويتدافعان ، فيجوز أن يكون الخاص سابقا وقد ورد العام بعده لإرادة العموم فنسخ الخاص ، ويجوز أن يكون العام سابقا وقد أريد به العموم ثم نسخ باللفظ الخاص بعده ، فعموم الرقبة مثلا يقتضي إجزاء الكافرة مهما أريد به العموم ، والتقييد بالمؤمنة يقتضي منع إجزاء الكافرة فهما متعارضان ، وإذا أمكن النسخ ، والبيان جميعا فلم يتحكم بحمله على البيان دون النسخ ، ولم يقطع بالحكم على العام بالخاص ، ولعل العام هو المتأخر الذي أريد به العموم ، وينسخ به الخاص ، وهذا هو الذي اختاره القاضي ، والأصح عندنا تقديم الخاص ، وإن كان ما ذكره القاضي ممكنا ، ولكن تقدير النسخ محتاج إلى الحكم بدخول الكافرة تحت اللفظ ثم خروجه عنه فهو إثبات وضع ، ورفع بالتوهم ، وإرادة الخاص باللفظ العام غالب معتاد بل هو الأكثر ، والنسخ كالنادر فلا سبيل إلى تقديره بالتوهم ، ويكاد يشهد لما ذكرناه من سير الصحابة ، والتابعين كثير فإنهم كانوا يسارعون إلى الحكم بالخاص على العام ، وما اشتغلوا بطلب التاريخ ، والتقدم ، والتأخر .

              الخامس : المفهوم بالفحوى ، كتحريم ضرب الأب حيث فهم من النهي عن التأفيف ، فهو قاطع كالنص ، وإن لم يكن مستندا إلى لفظ ، ولسنا نريد اللفظ بعينه بل لدلالته ، فكل دليل سمعي قاطع فهو كالنص ، والمفهوم عند القائلين به أيضا كالمنطوق حتى إذا ورد عام في إيجاب الزكاة في الغنم ثم قال الشارع : { في سائمة الغنم زكاة } أخرجت المعلوفة من مفهوم هذا اللفظ عن عموم اسم الغنم ، والنعم .

              السادس : فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو دليل على ما سيأتي بشرطه عند ذكر دلالة الأفعال ، وإنما يكون دليلا إذا عرف من قوله أنه قصد به بيان الأحكام ، كقوله عليه السلام { صلوا كما رأيتموني أصلي } ، و { خذوا عني مناسككم ، } فإن لم يتبين أنه أراد به البيان فإذا ناقض فعله لحكمه الذي حكم به فلا يرفع أصل الحكم بفعله المخالف له لكن قد يدل على التخصيص ، ونذكر له ثلاثة أمثلة .

              المثال الأول : أنه نهى عن الوصال ثم واصل فقيل له : نهيت عن الوصال ، ونراك تواصل فقال { إني لست كأحدكم إني أظل عند ربي يطعمني ، ويسقيني } فبين أنه ليس يريد بفعله بيان الحكم ثم تحريم الوصال إن كان بقوله لا تواصلوا أو نهيتكم عن الوصال فلا يدخل فيه الرسول عليه السلام لأنه مخاطب غيره . [ ص: 247 ] والمخاطب إنما يدخل تحت خطاب نفسه إذا أثبت الحكم بلفظ عام كقوله " حرم الوصال على كل عبد أو على كل مكلف أو على كل إنسان أو كل مؤمن " أو ما يجري مجراه ، وإن كان بلفظ عام فيكون فعله تخصيصا .

              المثال الثاني : أنه نهى عن استقبال القبلة في قضاء الحاجة ثم رآه ابن عمر مستقبلا بيت المقدس على سطح فيحتمل أنه تخصيص لأنه كان وراء سترة ، والنهي كان مطلقا ، وأريد به إذا لم يكن ساتر ، ويحتمل أنه كان مستثنى ، ومخصوصا فهو دليل على خروجه عن العموم إن كان اللفظ المحرم عاما له ، ولا يصلح هذا لأن ينسخ به تحريم الاستقبال لأنه فعل يكون في خلوة ، وخفية فلا يصلح لأن يراد به البيان ، فإن ما أريد به البيان يلزمه إظهاره عند أهل التواتر إن تعبد فيه الخلق بالعلم ، وإن لم يتعبدوا إلا بالظن ، والعمل فلا بد من إظهاره لعدل أو لعدلين .

              المثال الثالث : أنه نهى عن كشف العورة ثم كشف فخذه بحضرة أبي بكر ، وعمر ثم دخل عثمان رضي الله عنهم فستره فعجبوا منه فقال : { ألا أستحيي ممن تستحيي منه ملائكة السماء } فهذا لا يرفع النهي لاحتمال أنه لم يكن داخلا فيه أو لعله كشفه لعارض ، وعذر ، فإنه حكاية حال ، أو أريد بالفخذ ما يقرب منه ، وليس داخلا في حده أو إباحته خاصة له أو نسخ تحريم كشف العورة ، وإذا تعارضت الاحتمالات فلا يرتفع التحريم في حق غيره بالوهم .

              السابع : تقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا من أمته على خلاف موجب العموم ، وسكوته عليه السلام عليه يحتمل نسخ أصل الحكم أو تخصيص ذلك الشخص بالنسخ في حقه خاصة له أو تخصيص وصف ، وحال ، ووقت ذلك الشخص ملابس له فيشاركه في الخصوص من شاركه في ذلك المعنى ، فإن كان قد ثبت ذلك الحكم في كل وقت ، وفي كل حال تعين تقريره لكونه نسخا إما على الجملة ، وإما في حقه خاصة ، والمستيقن حقه خاصة ، لكن لو كان من خاصيته لوجب على النبي عليه السلام أن يبين اختصاصه بعد أن عرف أمته أن حكمه في الواحد كحكمه في الجماعة ، فيدل من هذا الوجه على النسخ المطلق .

              ولما أقر أصحابه على ترك زكاة الخيل مع كثرتها في أيديهم دل على سقوط زكاة الخيل ، إذ ترك الفرض منكر يجب إنكاره . فإن قيل فلعلهم أخرجوا ، ولم ينقل إلينا أو لعله لم يكن في خيلهم سائمة قلنا : العادة تحيل اندراس إخراجهم الزكاة طول أعمارهم ، والسوم قريب من الإمكان ، ويجب شرح ما يقرب وقوعه ; فلو وجب لذكره . فهذه سبع مخصصات ، ووراءها ثلاثة تظن مخصصات ، وليست منها فننظمها في سلك المخصصات .

              الثامن : عادة المخاطبين . فإذا قال لجماعة من أمته : حرمت عليكم الطعام ، والشراب مثلا وكانت عادتهم تناولهم جنسا من الطعام فلا يقتصر بالنهي على معتادهم بل يدخل فيه لحم السمك ، والطير ، وما لا يعتاد في أرضهم ; لأن الحجة في لفظه ، وهو عام ، وألفاظه غير مبنية على عادة الناس في معاملاتهم حتى يدخل فيه شرب البول ، وأكل التراب ، وابتلاع الحصاة والنواة .

              وهذا بخلاف لفظ الدابة فإنها تحمل على ذوات الأربع خاصة لعرف أهل اللسان في تخصيص اللفظ ، وأكل النواة ، والحصاة يسمى أكلا في العادة ، وإن كان لا يعتاد فعله ، ففرق [ ص: 248 ] بين أن لا يعتاد الفعل ، وبين أن يعتاد إطلاق الاسم على الشيء ، وعلى الجملة فعادة الناس تؤثر في تعريف مرادهم من ألفاظهم ، حتى إن الجالس على المائدة يطلب الماء يفهم منه العذب البارد لكن لا تؤثر في تغيير خطاب الشارع إياهم .

              التاسع : مذهب الصحابي إذا كان بخلاف العموم فيجعل مخصصا عند من يرى قول الصحابي حجة يجب تقليده وقد أفسدناه وكذلك تخصيص الراوي يرفع العموم عند من يرى أن مذهب الراوي إذا خالف روايته يقدم مذهبه على روايته ، وهذا أيضا مما أفسدناه ، بل الحجة في الحديث ، ومخالفته ، وتأويله ، وتخصيصه يجوز أن تكون عن اجتهاد ، ونظر لا نرتضيه فلا نترك الحجة بما ليس بحجة ، بل لو كان اللفظ محتملا ، وأخذ الراوي بأحد محتملاته واحتمل أن يكون ذلك عن توقيف فلا تجب متابعته ما لم يقل : إني عرفته من التوقيف بدليل أنه لو رواه راويان ، وأخذ كل واحد باحتمال آخر فلا يمكننا أن نتبعهما أصلا .

              العاشر : خروج العام على سبب خاص جعل دليلا على تخصصه عند قوم ، وهو غير مرض عندنا كما سبق تقريره ، واختتام هذا الكتاب بذكر مسألتين في تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد ، وبالقياس .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية