الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              مسألة : العلة القاصرة صحيحة

              وذهب أبو حنيفة إلى إبطالها . ونحن نقول : أولا ينظر الناظر في استنباط العلة وإقامة الدليل على صحتها بالإيماء أو بالمناسبة أو تضمن المصلحة المبهمة ، ثم بعد ذلك ينظر ، فإن كان أعم من النص عدى حكمها وإلا اقتصر ، فالتعدية فرع الصحة فكيف يكون ما يتبع الشيء مصححا له ؟ فإن قيل : كما أن البيع يراد للملك ; والنكاح للحل فإذا تخلفت فائدتهما قيل : إنهما باطلان ، فكذلك العلة تراد لإثبات الحكم بها في غير محل النص ، فإذا لم يثبت بها كانت باطلة لخلوها عن الفائدة .

              وللجواب منهجان :

              أحدهما : أن نسلم عدم الفائدة ، ونقول : إن عنيتم بالبطلان أنه لا يثبت بها حكم في غير محل النص فهو مسلم ، ونحن لا نعني بالصحة إلا أن الناظر ينظر ويطلب العلة ولا ندري أن ما سيفضي إليه نظره قاصر أو متعد ويصحح العلة بما يغلب على ظنه من مناسبة أو مصلحة أو تضمن مصلحة ثم يعرف بعد ذلك تعديه أو قصوره فما ظهر من قصوره لا ينعطف فسادا على مأخذ ظنه ونظره ولا ينزع من قلبه ما قر في نفسه من التعليل ، فإذا فسرنا الصحة بهذا القدر لم يمكن جحده وإذا فسروا البطلان بما ذكروه لم نجحده وارتفع [ ص: 339 ] الخلاف .

              الثاني أنا لا نسلم عدم الفائدة بل له فائدتان :

              الأولى معرفة باعث الشرع ومصلحة الحكم استمالة للقلوب إلى الطمأنينة والقول بالطبع والمسارعة إلى التصديق ; فإن النفوس إلى قبول الأحكام المعقولة الجارية على ذوق المصالح أميل منها إلى قهر التحكم ومرارة التعبد ، ولمثل هذا الغرض استحب الوعظ وذكر محاسن الشريعة ولطائف معانيها ، وكون المصلحة مطابقة للنص وعلى قدر حذقه يزيدها حسنا وتأكيدا .

              فإن قيل : هذا إنما يجري في المناسب دون الأوصاف الشبهية مثل النقدية في الدراهم والدنانير ، وقد جوزتم التعليل بمثل هذه العلة القاصرة . قلنا : تعريف الأحكام بمعان توهم الاشتمال على مصلحة ومناسبة أقرب إلى العقول من تعريفها بمجرد الإضافة إلى الأسامي فلا تخلو من فائدة ، ثم إن لم تجر هذه الفائدة في العلة الشبهية فالفائدة الثانية جارية .

              الفائدة الثانية : المنع من تعدية الحكم عند ظهور علة أخرى متعدية إلا بشرط الترجيح . فإن قيل : تمتنع تعدية الحكم لا بظهور علة قاصرة بل بأن لا تظهر علة متعدية ، فأي حاجة إلى العلة القاصرة ؟ وإن ظهرت علة متعدية فلا يمتنع التعليل بالعلة القاصرة بل يعلل الحكم في الأصل بعلتين وفي الفرع بعلة واحدة ؟ قلنا : ليس كذلك ، فإن كل علة مخيلة أو شبهية فإنما تثبت بشهادة الحكم وتتم بالسبر وشرطه الاتحاد كما سبق ، فإذا ظهرت علة أخرى انقطع الظن ، فإذا ظهرت علة متعدية يجب تعدية الحكم فإن أمكن التعليل بعلة قاصرة عارضت المتعدية ودفعتها إلا إذا اختصت المتعدية بنوع ترجيح ، فإذا أفادت القاصرة دفع المتعدية التي تساويها والمتعدية دفع القاصرة وتقاوما بقي الحكم مقصورا على النص ولولا القاصرة لتعدى الحكم فإن قيل : إنما تصح العلة بفائدتها الخاصة .

              وفائدة العلة الحكم بالفرع دون حكم الأصل ; فإن حكم الأصل ثابت بالنص لا بالعلة ، إنما الذي يثبت العلة حكم الفرع إذ فائدتها تعدية الحكم فإذا لم تكن تعدية فلا حكم للعلة . قلنا : قولكم فائدة العلة حكم الفرع محال ; لأن علة تحريم الربا في البر طعم البر ولا تحرم الذرة بطعم البر بل بطعم الذرة ، فحكم الفرع فائدة علة في الفرع لا فائدة علة في الأصل .

              وقولكم : حكمها التعدية محال ; فإن لفظ التعدية تجوز واستعارة وإلا فالحكم لا يتعدى الأصل إلى الفرع بل يثبت في الفرع مثل حكم الأصل عند وجود مثل تلك العلة فلا حقيقة للتعدي . ويتولد من هذا النظر مسألة ، وهي أن العلة إذا كانت متعدية فالحكم في محل النص يضاف إلى العلة أو إلى النص ؟ فقال أصحاب الرأي : يضاف إلى النص ; لأن الحكم مقطوع به في المنصوص والعلة مظنونة فكيف يضاف مقطوع إلى مظنون . وقال أصحابنا : يضاف إلى العلة .

              وهو نزاع لا تحقيق تحته ، فإنا لا نعني بالعلة إلا باعث الشرع على الحكم فإنه لو ذكر جميع المسكرات بأسمائها فقال : لا تشربوا الخمر والنبيذ ، وكذا ، وكذا ، ونص على جميع مجاري الحكم لكان استيعابه مجاري الحكم لا يمنعنا من أن نظن أن الباعث له على التحريم الإسكار ، فنقول : الحكم مضاف إلى الخمر والنبيذ بالنص ولكن الإضافة إليه معللة بالشدة بمعنى أن باعث الشرع على التحريم هو الشدة ، وقولهم : إنه مظنون .

              فنقول : ونحن لا نزيد على أن نقول : نظن أن باعث الشرع الشدة ، فلا يسقط هذا الظن باستيعاب مجاري الحكم ولا حجر علينا في أن نصدق فنقول : إنما نظن [ ص: 340 ] كذا مهما ظننا ذلك . فإن قيل : الظن جهل إنما يجوز لضرورة العمل والعلة القاصرة لا يتعلق بها عمل فلا يجوز الهجوم عليها برجم الظنون وعند هذا كاع بعض الأصحاب وقال : إن كانت منصوصة جاز إضافة الحكم إليها في محل النص كالسرقة مثلا وإلا فلا .

              ونحن نقول : لا مانع من هذا الظن للفائدتين المذكورتين ، إحداهما استمالة القلوب إلى حسن التصديق والانقياد ، وأكثر المواعظ على هذه الصفة ظنية وخلقت طباع الآدميين مطيعة للظنون بل للأوهام ، وأكثر بواعث الناس على أعمالهم وعقائدهم في مصادرهم ومواردهم ظنون . الفائدة الثانية : مدافعة العلة المعارضة له كما سبق .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية