الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون )

فلق الشيء : شقه . النواة معروفة ، والنوى اسم جنس بينه وبين مفرده [ ص: 184 ] تاء التأنيث . النجم معروف ، سمي بذلك لطلوعه ، يقال نجم النبت : إذا طلع . الإنشاء : الإيجاد ، لا يفيد الابتداء بل على وجه النمو ، كما يقال في النبات : أنشأه ، بمعنى النمو والزيادة إلى وقت الانتهاء . مستودع مستفعل من الوديعة يكون مصدرا وزمانا ومكانا ، والوديعة معروفة . الخضر : الغض ، وهو الرطب من البقول وغيرها ، قال الزجاج : الخضر بمعنى الأخضر ، اخضر فهو أخضر وخضر ، كاعور فهو أعور وعور ، وقال غيره : الخضر النضارة ، ولا مدخل للون فيه ، ومنه الدنيا خضرة حلوة ، والأخضر يغلب في اللون ، وهو في النضارة تجوز ، وقال الليث : الخضر في كتاب الله الزرع ، وفي الكلام كل نبات من الخضرة . تراكب الشيء ركب بعضه بعضا . الطلع : أول ما يخرج من النخلة في أكمامه ، أطلعت النخلة أخرجت طلعها ، قال أبو عبيد : وطلعها كعراها قبل أن ينشق عن الإغريض ، والإغريض يسمى طلعا ، ويقال طلع يطلع طلوعا . القنو بكسر القاف وضمها : العذق بكسر العين وهو الكباسة وهو عنقود النخلة ، وقيل : الجمار ، حكاه القرطبي ، وجمعه في القلة أقناء ، وفي الكثرة قنوان بكسر القاف في لغة الحجاز وضمها في لغة قيس ، وبالياء بدل الواو في لغة ربيعة وتميم بكسر القاف وضمها ، ويجتمعون في المفرد على قنو ، وقنو بالواو ، ولا يقولون فيه قني ولا قني . الزيتون شجر معروف ، ووزنه فيعول ، كقيصوم ، لقولهم أرض زتنة ، ولعدم فعلول أو قلته ، فمادته مغايرة لمادة الزيت . الرمان فعال كالحماض والعناب ، وليس بفعلان لقولهم أرض رمنة . الينع مصدر ينع بفتح الياء في لغة الحجاز ، وبضمها في لغة بعض نجد ، وكذا اللينع بضم الياء والنون ، والينوع بواو بعد الضمتين ، يقال : ينعت الثمرة إذا أدركت ونضجت وأينعت أيضا ، ومنه قول الحجاج : أرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها . قال الفراء : ينع الثمر واحمر ، ومنه في حديث الملاعنة : إن ولدته أحمر مثل الينعة وهي خرزة حمراء ، يقال إنها العقيق أو نوع منه ، وقيل : الينع جمع يانع ، كتاجر وتجر وصاحب وصحب . خرق وخرق : اختلق وافترى . اللطيف قال ابن أعرابي : هو الذي يوصل إليك أربك في رفق ، ومنه لطف الله بك ، وقال الأزهري : اللطيف من أسمائه تعالى الرفيق بعباده ، وقيل : اللطيف ضد الكثيف . السب : الشتم . الفؤاد : القلب .

( إن الله فالق الحب والنوى ) الظاهر أن المعنى : أنه تعالى ( فالق الحب ) شاقه فمخرج منه النبات ، ( والنوى ) فمخرج منه الشجر ، والحب والنوى عامان ، أي : كل حبة وكل نواة ، وبه قال قتادة والضحاك والسدي وغيرهم ، قالوا : هذه إشارة إلى فعل الله في أن يشق جميع الحب عن جميع النبات الذي يكون منه ، ويشق النوى عن جميع الأشجار الكائنة عنه ، وقال ابن عباس والضحاك أيضا : ( فالق ) بمعنى خالق ; قيل : ولا يعرف ذلك في اللغة ، وقال تاج القراء : فطر وخلق وفلق بمعنى واحد ، وقال مجاهد وأبو مالك : إشارة في الشق الذي في حبة البر ونواة التمر ، وقال إسماعيل الضرير : المعنى فالق ما فيه الحب من السنبل وما فيه النوى من التمر وما أشبهه ، وقال الماتريدي : وخصهما بالذكر لأن جميع ما في الدنيا من الأبدال منهما ، فأضاف ذلك إلى نفسه كما أضاف خلق جميع البشر إلى نفس واحدة لأنهم منها في قوله ( خلقكم من نفس واحدة ) ، فكأنه قال : خالق الأبدال كلها . انتهى . ولما كان قد تقدم ذكر البعث نبه على قدرته تعالى الباهرة في شق النواة مع صلابتها ، وإخراجه منها نبتا أخضر لينا ، إلى ما بعد ذلك مما فيه إشارة إلى القدرة التامة والبعث والنشر بعد الموت ، وقرأ عبد الله : ( فلق الحب ) جعله فعلا ماضيا .

( يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ) تقدم تفسير هذا في أوائل آل عمران ، وعطف قوله : [ ص: 185 ] ( ومخرج الميت ) على قوله : ( فالق الحب ) اسم فاعل على اسم فاعل ، ولم يعطفه على يخرج ; لأن قوله : ( فالق الحب والنوى ) من جنس إخراج الحي من الميت ; لأن النامي في حكم الحيوان ، ألا ترى إلى قوله : ( يحيي الأرض بعد موتها ) ، فوقع قوله : ( يخرج الحي من الميت ) من قوله : ( فالق الحب والنوى ) موقع الجملة المبينة ; فلذلك عطف اسم الفاعل لا على الفعل ، ولما كان هذا مفقودا في آل عمران ، وتقدم قبل ذلك جملتان فعليتان وهما ( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ) كان العطف بالفعل ، على أنه يجوز أن يكون معطوفا ، وهو اسم فاعل على المضارع ; لأنه في معناه ، كما قال الشاعر :


بات يغشيها بعضب باتر يقصد في أسوقها وجائر



( ذلكم الله فأنى تؤفكون ) أي : ذلكم المتصف بالقدرة الباهرة فأنى تصرفون عن عبادته وتوحيده والإيمان بالبعث ، إلى عبادة غيره واتخاذ شريك معه وإنكار البعث .

التالي السابق


الخدمات العلمية