الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      القسم الرابع : أن يدخل وقت المأمور به ، لكن ينسخ قبل فعله ، إما لكونه موسعا ، وإما لأنه أراد أن يشرع فينسخ . فقال سليم ، وابن الصباغ في " العدة " : إنه لا خلاف بين أهل العلم في جوازه ، وجعلا الخلاف فيما قبل دخول الوقت ، وكذلك فعل ابن برهان في " الأوسط " والقاضي [ ص: 229 ] من الحنابلة ، وكذا نقل فيه الإجماع صاحب " الكبريت الأحمر " . قال : للمعنى الذي جاز نسخه بعد إيجاده ، وهو انقلاب المصلحة مفسدة ، وكذا الآمدي في أثناء الاستدلال ، فإنه قال : والخلاف إنما هو فيما قبل التمكن لا بعده . وكلام إمام الحرمين في " البرهان " مصرح به ، وجرى عليه العبدري في " شرح المستصفى " فقال : النسخ قبل التمكن من الفعل ثلاث صور : إحداها : أن يرد بعد أن مضى من الوقت قدر ما تقع فيه العبادة كلها .

                                                      الثانية : أن يرد بعد أن مضى من الوقت قدر ما يقع فيه بعضها . فهاتان الصورتان متفق على جواز النسخ عندالأشعرية ، والمعتزلة فيهما ، لأن شرط الأمر حاصل ، وهو التمكن من الفعل .

                                                      الثالثة : أن يرد الأمر قبل وقته المعتد به ثم ينسخ قبل دخول ذلك الوقت ، فهو موضع الخلاف . ا هـ .

                                                      وفي هذا رد على القرافي وغيره حيث أجروا خلاف المعتزلة هنا . نعم ، الخلاف ثابت بنقل الهندي أن في بعض المؤلفات القديمة أن بعضهم كالكرخي خالف فيه . وقال : لا يجوز النسخ قبل الفعل ، سواء مضى من الوقت مقدار ما يسعه أم لم يمض .

                                                      وقد أطلق جماعة من أئمتنا حكاية الخلاف في النسخ قبل الفعل ، وهو يشمل هذه الصورة . وحكى الماوردي فيها ثلاثة أوجه ، فقال : إذا ورد [ ص: 230 ] النسخ قبل اعتقاد المنسوخ وقبل العمل به ، ففيه ثلاثة أوجه : أحدها : لا يجوز ، كما لا يجوز قبل الاعتقاد .

                                                      والثاني : يجوز كما يجوز بعد العمل ، لأن الاعتقاد من أعمال القلب .

                                                      والثالث : لا يجوز إلا إن مضى بعد الاعتقاد زمان العمل به وإن لم يعمل به ، لاختصاص النسخ بتقديره التكليف ، وذلك موجود بمضي زمانه . ا هـ . وقضيته جريان الخلاف مطلقا فيما قبل التمكن وبعده . وعن أبي العباس بن سريج حكاية وجهين لأصحاب الشافعي في النسخ قبل الفعل . أحدهما : المنع . والثاني : التفصيل بين أن ينقل من فرض إلى إسقاطه فيجوز ، لأن الإسقاط حصل فيه الإثبات للتخفيف ، وهذا الوجه رأيته محكيا في كتاب أبي إسحاق المروزي الذي ألفه في الناسخ والمنسوخ قال : باب ذكر نسخ الفرض المأمور به قبل أن يستعمل منه شيء ، بإسقاطه أو بالنقل إلى غيره . قال أبو إسحاق : لست أحفظ للشافعي في هذا الباب شيئا نصا إلا ما ذكره في بعض المواضع من أن الله عز وجل إذا فرض شيئا استعمل عباده به ما أحب ، ثم نقلهم منه إذا شاء . هذا معناه ، وليس فيه ما يقتضي الجواز أو المنع ، لكنه إلى المنع أقرب . وقد ذهب بعض أصحابنا إلى جوازه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض عليه خمسون صلاة حيث أسري به ، ثم رد إلى خمس ، فصار نسخا قبل استعماله . وكذلك قصة إبراهيم في الذبح ، ونسخ الصدقة عند مناجاة الرسول ، وعهد النبي عليه السلام مع قريش أن يرد عليهم من جاءه من نسائهم ، وذلك نقل عما أمروا به قبل استعماله . قال أبو إسحاق : وهذا كله محتمل ، والأصح عندي على مذهب الشافعي أنه لا يجوز نسخ الشيء قبل أن يستعمل منه شيء . وأما الانفصال عن جميع ما ذكر على مذهب الشافعي ، والجواب في ذلك على وجهين : [ ص: 231 ] أحدهما : أنه لا يجوز نسخ شيء لم يستعمل منه شيء بأي وجوه النسخ كان نقلا من فرض إلى غيره ، أو من وجوب إلى إسقاط أو من حظر إلى إباحة أو عكسه .

                                                      والثاني : أن ذلك جائز فيما نقل من فرض إلى إسقاط ، لأن الإسقاط قد حصل منه الامتنان بالتخفيف ، وهو المقصود ، ولهذا قال تعالى : { الآن خفف الله عنكم } فامتن بالتخفيف بعد التغليظ ، فهذا جائز ، فأما إذا نقل من فرض إلى مثله أو أغلظ منه ، فليس ذلك موضع الامتنان ولا المقصد في الأمر الأول إلا فعل ما أمروا به ، والنقل عن ذلك إلى مثله لا مقصد فيه ينسب إلى الله تعالى فعلا ، إلا ويكون في ذلك مقصد معتزلي معروف .

                                                      ثم قال : وإنما حمل القائلين بجواز النسخ قبل الفعل مراعاة مذهبهم في المنع من تأخير البيان ، فأرادوا تصحيح مذهبهم . فسموا ما وقع التأخير فيه نسخا ، لئلا يلزمهم تأخير البيان ، فعدلوا عن تسميته بيانا إلى النسخ ، لذلك قال : وأول من فعل ذلك القاشاني . وقد كان قوله بتأخير البيان أولى ثم ، وأشبه بمذاهب أهل العلم في جواز تأخير البيان .

                                                      ثم قال : فإن قلنا بالوجه الثاني فما ذكروه من الأدلة ساقط ، لأن جميعها نقل من فرض إلى إسقاط . والامتنان في جميع ذلك ثابت ، وإن قلنا بالأول وهو نفي جواز ذلك مطلقا . فالجواب عنه : أنها كلها نسخ بعد الشروع في الأمر ، ونحن إنما نمنع من قبل أن يؤتى منه بشيء ، وقصة إبراهيم أتي فيها بالإضجاع ، وإمرار السكين ، والطعن به ، وكذلك قصة النجوى ، فقد فعلها بعض الصحابة ، وقصة الصلاة لا نسميه نسخا ، لأنه لم يستقر الأمر إلا بخمس . وأما قصة الصلح ، فقال الشافعي : إن الصلح كان قد وقع في الرجال والنساء ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم الرجال ، ومنع من رد النساء ، وأعطوا الغرض منه ، فقد استعمل بعد الفعل ، ونحن لا نمنع وقوع النسخ بعد أن يفعل بعضه . هذا خلاصة كلامه .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية