الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان حكم البناء على القبور واتخاذها مساجد، وحكم الصلاة فيها

وعن عائشة : أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد متفق عليه.

قال في «اللمعات»: لما أعلمه الله بقرب أجله، خشي أن يفعل بعض أمته بقبره الشريف ما فعله أهل الكتاب بقبور أنبيائهم، فنهى عن ذلك.

قال التوربشتي : هو مخرج على الوجهين:

أحدهما: كانوا يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لهم وقصد العبادة في ذلك.

وثانيهما: أنهم كانوا يتحرون الصلاة في مدافن الأنبياء، والتوجه إلى قبورهم في حالة الصلاة والعبادة لله، نظرا منهم أن ذلك الصنيع أعظم موقعا عند الله؛ لاشتماله على الأمرين: 1 - عبادة الله. 2- والمبالغة في تعظيم الأنبياء، وكلا الطرفين غير مرضي.

أما الأول، فشرك جلي. وأما الثاني، لما فيه من معنى الإشراك بالله -عز وجل- وإن كان خفيا، والدليل على ذم الوجهين الحديث السابق: اللهم لا تجعل قبري وثنا.. إلخ، والوجه الأول أظهر وأشبه به، كما قال التوربشتي في شرحه، فعلم منه أنه يحرم الصلاة إلى قبر نبي أو صالح تبركا وإعظاما.

قال: وبذلك صرح النووي، وقال التوربشتي : فأما إذا وجد بقربها موضع بني للصلاة، أو مكان يسلم فيه المصلي عن التوجه إلى القبور، فإنه في فسحة من الأمر، وكذلك إذا صلى في موضع قد اشتهر بأن فيه مدفن نبي، ولم ير القبر فيه علما، ولم يكن قصده ما ذكرناه من العمل المتلبس بالشرك الخفي.

[ ص: 571 ] وفي شرح الشيخ مثله؛ حيث قال: وخرج بذلك اتخاذ مسجد بجوار نبي أو صالح، والصلاة عند قبره لا لتعظيمه والتوجه نحوه، بل لحصول مدد منه حتى يكمل ببركة مجاورته لتلك الروح الطاهرة، فلا حرج في ذلك؛ لما ورد أن قبر إسماعيل -عليه السلام- في الحجر تحت الميزاب، وأن بين الحجر الأسود وزمزم قبر سبعين نبيا، ولم ينه أحد عن الصلاة فيه. انتهى. وكلام الشارحين مطابق في ذلك.

وأقول: ما أبرد هذا التحرير والاستدلال عليه بذلك التقرير! لأن كون قبر إسماعيل -عليه السلام- وغيره من الأنبياء، سواء كانوا سبعين، أو أقل أو أكثر، ليس من فعل هذه الأمة المحمدية، ولا هو وهم دفنوا لهذا الغرض هناك، ولا نبه على ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا علامات لقبورهم منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا تحرى نبينا - عليه الصلاة والسلام - قبرا من تلك القبور على قصد المجاورة بهذه الأرواح المباركة، ولا أمر به أحدا، ولا تلبس بذلك أحد من سلف هذه الأمة وأئمتها. بل الذي أرشدنا إليه، وحثنا عليه، ألا نتخذ قبور الأنبياء مساجد، كما اتخذت اليهود والنصارى، وقد لعنهم على هذا الاتخاذ. فالحديث برهان قاطع لمواد النزاع، وحجة نيرة على كون هذه الأفعال جالبة اللعن، واللعن أمارة الكبيرة المحرمة أشد التحريم. فمن اتخذ مسجدا بجوار نبي أو صالح، رجاء بركته في العبادة، ومجاورة روح ذلك الميت، فقد شمله الحديث شمولا واضحا كشمس النهار. ومن توجه إليه، واستمد منه، فلا شك أنه أشرك بالله، وخالف أمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث وما ورد في معناه. ولم يشرع الزيارة في ملة الإسلام إلا للعبرة والزهد في الدنيا، والدعاء بالمغفرة للموتى. وأما هذه الأغراض التي ذكرها بعض من يعزى إلى الفقه والرأي والقياس، [ ص: 572 ] فإنها ليست عليها أثارة من علم، ولم يقل بها -فيما علمت- أحد من السلف، بل السلف أكثر الناس إنكارا على مثل هذه البدع الشركية.

وعن جندب بن عبد الله يرفعه: ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك رواه مسلم.

النهي أصل في التحريم، والحديث دليل على حرمة اتخاذها مواضع للعبادة؛ لكونها مظنة للشرك.

قال في «فتح المجيد»: ثم إنه لعن على فاعل ذلك كما في حديث عائشة، فكيف يسوغ مع هذا التغليظ أن تعظم القبور، ويبنى عليها، ويصلى عندها وإليها؟! هذا أعظم مشاقة ومحادة لله تعالى ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- لو كانوا يعقلون. انتهى.

قال ابن القيم -رحمه الله-: وبالجملة: فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقاصده، جزم جزما لا يحتمل النقض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغة: «لا تتخذوا»، وصيغة: «إني أنهاكم عن ذلك» ليس إلا لأجل النجاسة الشركية اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه أو عدم من قول: «لا إله إلا الله»؛ فإن هذا وأمثاله من النبي -صلى الله عليه وسلم- صيانة لحمى التوحيد من أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له، وغضب لربه تعالى أن يعدل به سواه. فأبى المشركون إلا معصية لأمره، وارتكابا لنهيه، وغرهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم لها أشد تعظيما، أو أشد فيهم غلوا، كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد. ولعمر الله! من هذا الباب دخل الشرك على عباد «يغوث»، و «يعوق»، و «نسر»، ودخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة. فجمع المشركون بين الغلو فيهم، والطعن في طريقتهم. [ ص: 573 ] فهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم، وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها من العبودية، وسلب خصائص الألوهية عنهما.

قال في «فتح المجيد»: وممن علل ذلك بخوف فتنة الشرك: الإمام الشافعي، وأبو بكر الأثرم الحافظ، وأبو محمد المقدسي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم، وهو الحق الذي لا ريب فيه؛ فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا، فضلا عن قبر غيره؛ لما علموا من تشديده -صلى الله عليه وسلم- في ذلك وتغليظه، ولعن من فعله، وكل موضع قصدت الصلاة فيه، فقد اتخذ مسجدا، وإن لم يبن هناك مسجد، بل كل مكان يصلى فيه يسمى مسجدا، وإن لم يقصده بذلك، كما إذا عرض لمن أراد أن يصلي، فأوقع الصلاة في ذلك الموضع الذي حانت الصلاة عنده من غير أن يقصد ذلك الموضع بخصوصه، فصار بفعل الصلاة مسجدا، كما قال-صلى الله عليه وسلم-: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»، انتهى.

وأقول: لأحمد بسند جيد عن ابن مسعود مرفوعا: إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد»، ورواه أيضا أبو حاتم بن حبان في «صحيحه». وفيه دلالة على أن متخذ القبر مسجدا، من شرار الخلق عند الله، وحاله حال من تقوم الساعة عليه وهو من شرارهم، نعوذ بالله من ذلك. اللهم صونا.

والمعنى: النهي عن اتخاذها مساجد بالصلاة عندها، وقربها، وإليها، وبناء المساجد عليها، أو بنائها في المساجد، وتقدم في الأحاديث الصحيحة: أن هذا من عمل المغضوب عليهم والضالين. والنبي -صلى الله عليه وسلم- لعنهم على ذلك تحذيرا للأمة أن يفعلوا مع نبيهم وصالحيهم مثل فعلهم. فلم يرفع أكثرهم بذلك رأسا، ولم يبالوا لها بالا، بل اعتقدوا أن هذا الأمر قربة إلى الله. [ ص: 574 ] والحال أنه مما يبعدهم منه سبحانه، ويطردهم عن باب رحمته ومغفرته، وما يقربهم إلا إلى لعنته، وما يدنيهم إلا من سخطه وغضبه.

قال في «فتح المجيد»: والعجب أن أكثر من يدعي العلم، ممن هو من هذه الأمة لا ينكرون ذلك، بل ربما استحسنوه، ورغبوا في فعله. فلقد اشتدت غربة الإسلام، وعاد المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير.

التالي السابق


الخدمات العلمية