الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 598 ] قال أبو محمد المقدسي: ولو أتيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله، ولأن فيه إفراطا في تعظيم القبور، شبه تعظيم الأصنام، ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر المأثور، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعن اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا. متفق عليه، ولأن تجصيص القبور، وتعظيم المقبور يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها، والتقريب إليها. وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام كانت هي تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها، والصلاة عندها. انتهى.

وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال إلى أن شرعوا للقبور حجا وطوافا وسجدة، وصنعوا لها مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا، وسماه «مناسك حج المشاهد» مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام. فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبر، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه. ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز عن حصره:

منها: تعظيمها الموقع في الافتتان بها.

ومنها: اتخاذها أعيادا.

ومنها: السفر إليها من مسافات قليلة أو كثيرة، بعيدة أو قريبة.

ومنها: مشابهة عباد الأوثان بما يفعل عندها من العكوف عليها، والمجاورة عندها، مثل المجاورة عند المسجد الحرام، فيرون سدنتها أفضل من خدمة [ ص: 599 ] المساجد، والويل لمجاورها ليلة يطفئ القنديل المعلق عليها.

ومنها: النذر لها ولسدنتها.

ومنها: اعتقاد المشركين بها. أنها تكشف البلاء، وتنصر على الأعداء، وتنزل غيث السماء، وتفرج الكروب، وتقضي الحوائج، وتنصر المظلوم، وتجير الخائف، وتعين الملهوف، إلى غير ذلك.

ومنها: الدخول في لعنة الله ورسوله باتخاذ المساجد عليها، وإيقاد السرج عليها.

ومنها: أن المسيح -عليه السلام- وكذلك غيره من الأنبياء الكرام والأولياء والمشايخ العظام، يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى ونظائر اليهود عند قبورهم ويكرهونه، ويوم القيامة يتبرؤون منهم، كما دلت على هذا آيات من القرآن.

ومنها: إماتة السنن، وإحياء البدع .

ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله؛ فإن عباد القبور يقصدونها مع التعظيم، والاحترام، والخشوع، ورقة القلب، والعكوف بالهمة على الموتى ما لا يفعلونه في المساجد ولا قريبا منه.

ومنها: أن الذي شرعه -صلى الله عليه وسلم- إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء والترحم عليه والاستغفار له، وسؤال العافية، فيكون الزائر محسنا إلى نفسه، وإلى الميت.

وقلب هؤلاء المشركون الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة: الشرك بالميت ودعاءه، والدعاء به، وسؤاله حوائجهم، واستنزال البركة منه، ونصره لهم على الأعداء، والاستعانة بهم، واستغاثتهم في البلاء، والسفر إليهم في الشدة والرخاء، ونحو ذلك، فصاروا مسيئين إلى أنفسهم وإلى الميت.

وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد نهى الرجال عن زيارة القبور؛ سدا للذريعة، فلما تمكن التوحيد في قلوبهم، أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، ونهاهم أن يقولوا هجرا، ومن أعظم الهجر، الشر عندها قولا وفعلا.

[ ص: 600 ] وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت».

التالي السابق


الخدمات العلمية