الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        المسألة الثالثة : إذا تناضلا مبادرة ، وشرطا المال لمن سبق إلى إصابة عشرة من مائة مثلا ، فسبق أحدهما إلى الإصابة المشروطة قبل كمال عدد الأرشاق ، بأن رمى كل واحد منهما خمسين ، وأصاب أحدهما منها عشرة والآخر دونها ، فالأول ناضل وقد استحق المال ، وهل يلزمه إتمام العمل ؟ فيه طريقان ، المذهب وبه قطع الجمهور : لا يلزم ، لأنه تم العمل الذي تعلق به الاستحقاق ، فلا يلزمه عمل آخر ، والثاني : فيه وجهان حكاهما الإمام والغزالي ، ثانيهما : يلزمه لينتفع صاحبه بمشاهدة رميه ويتعلم منه ، ولو تناضلا محاطة وشرطا المال لمن خلص له عشرة من مائة ، فرمى كل واحد خمسين ، وأصاب أحدهما في خمسة عشر ، والآخر في خمسة ، فقد خلص للأول عشرة هل يستحق بها المال ، أم يتوقف الاستحقاق على استكمال الأرشاق ؟ وجهان ، أحدهما : يستحق بها كالمبادرة ، والثاني وهو الصحيح : لا يستحق ، لأن الاستحقاق منوط بخلوص عشرة من مائة ، وقد يصيب الآخر فيما بقي ما يمنع خلوص عشرة للأول بخلاف المبادرة ، فإن الإصابة بعدها لا ترفع ابتدار الأول إلى ذلك العدد ، فإن قلنا بهذا ، وجب إتمام الأرشاق ، وإن قلنا بالأول وأنه لا حط بعد خلوص العدد المشروط ، [ ص: 379 ] فهل للآخر أن يكلفه إتمام العمل ؟ فيه الطريقان في المبادرة ، ويجري الخلاف في كل صورة يتوقع الآخر منع الأول من خلوص المشروط أو نصله ، كما إذا شرطا خلوص خمسة من عشرين ، فرمى كل واحد خمسة عشر ، وأصاب أحدهما عشرة والآخر ثلاثة ، لأنهما إذا استكملا الأرشاق ، فقد يصيب الآخر في الخمسة الباقية ، ولا يصيب الأول في شيء منها ، فلا يخلص له عشرة ، فلو كانت الصورة بحالها ، وأصاب الأول في عشرة من خمسة عشر ، ولم يصب الآخر في شيء منها ، فلا يرجو الآخر منع الأول من الخلوص ، فيثبت له استحقاق المال في الحال قطعا ، قال البغوي وغيره : ولا يلزمه إتمام الأرشاق ، ولا يشك أنه يجيء فيه الخلاف المذكور في المبادرة ، ولو رمى أحدهما والشرط المبادرة في المثال المذكور خمسين ، وأصاب عشرة ، ورمى الآخر تسعة وأربعين ، وأصاب تسعة ، فالأول ليس بناضل ، بل يرمي الآخر سهما آخر فإن أصاب ، فقد تساويا وإلا فقد ثبت الاستحقاق للأول ، ولو أصاب الأول من خمسين عشرة ، والآخر من تسعة وأربعين ثمانية ، فالأول ناضل لأن الآخر وإن أصاب في رميته الباقية لا يساوي الأول ، ويظهر بالصورتين أن الاستحقاق لا يحصل بمجرد المبادرة إلى العدد المذكور بل يشترط مع الابتدار مساواتهما في عدد الأرشاق ، أو عجز الثاني من المساواة في الإصابة ، وإن ساواه في عدد الأرشاق ، ولو خلص لأحدهما في المحاطة عشرة من خمسين ، ورمى الآخر تسعة وأربعين ولم يصب في شيء منها فله أن يرمي سهما آخر فلعله يصيب فيه ، فيمنع خلوص عشر إصابات للأول .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا قال رجل لرام : ارم خمسة عني ، وخمسة عن نفسك ، فإن أصبت في خمستك ، أو كان الصواب فيها أكثر ، فلك كذا ، أو قال : [ ص: 380 ] ارم عشرة ، واحدة عنك وواحدة عني ، فإن كانت إصابتك فيما رميت عنك أكثر ، فلك كذا ، لم يجز ، نص عليه في " الأم " لأن المناضلة عقد ، فلا يكون إلا بين نفسين كالبيع وغيره ، ولأنه قد يجتهد في حق نفسه دون صاحبه ولو قال : ارم عشرة فإن كان صوابك منها أكثر ، فلك كذا ، فظاهر ما نقله المزني : أنه لا يجوز ، وأشار في تعليله بأنه يناضل نفسه ، فوافقه طائفة من الأصحاب ، وخالفه الجمهور وقالوا : هو جائز ، وحكوه عن نصه في " الأم " ، وعللوه بأنه بذل المال على عوض معلوم ، وله فيه غرض ظاهر ، وهو تحريضه على الرمي ومشاهدة رميه ، قالوا : وليس هو بنضال ، بل هو جعالة ، ثم من هؤلاء من غلط المزني في الحكم والتعليل ، ومنهم من تأوله على ما لو قال : ارم كذا ، فإن كان صوابك أكثر ، فقد نضلتني ، فهذا لا يجوز ، لأن النضال إنما يكون بين اثنين ، فإن قلنا بالجواز ، فرمى ستة وأصابها كلها ، فقد ثبت استحقاقه ، وللشارط أن يكلفه استكمال العشرة على المذهب ، لأنه علق الاستحقاق بعشرة إصابتها أكثر ، ولو قال لمتراميين : ارميا عشرة ، فمن أصاب منكما خمسة ، فله كذا ، جاز ، ولو قال رجل لآخر : نرمي عشرة ، فإن أصبت في خمستك ، فلك كذا ، وإن أصبت أنا ، فلا شيء لي عليك ، جاز أيضا ، وإن قال : وإن أصبت في خمستي ، فلي عليك كذا ، لم يجز إلا بمحلل ، ولو قال : ارم سهما ، فإن أصبت ، فلك كذا ، وإن أخطأت ، فعليك كذا ، فهو قمار .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو كانوا يتناضلون ، فمر بهم رجل ، فقال لمن انتهت النوبة إليه وهو يريد الرمي : ارم ، فإن أصبت بهذا السهم ، فلك دينار ، نص الشافعي - رحمه الله - أنه إذا أصاب ، استحق الدينار ، وتكون تلك [ ص: 381 ] الإصابة محسوبة من معاملته التي هو فيها ، قال الأصحاب : قياسا على هذا ، لو كان يناضل رجلا والمشروط عشر قرعات ، فشرط أن يناضل بها ثانيا ثم ثالثا إلى غير ضبط ، وإذا فاز بها ، كان ناضلا لهم جميعا ، جاز ، قال الإمام : هذا دليل على انقطاع هذه المعاملة عن مضاهاة الإجارة ، لأنها لو كانت مثلها لما استحق بعمل واحد مالين عن جهتين ، وسبب استحقاق المال فيها الشرط لا رجوع العمل إلى الشارط .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية