الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                41 - النية إنما تعمل في الملفوظ 42 -

                وهي مسألة إن أكلت ونوى طعاما دون طعام ، [ ص: 163 ] إلا إذا قال إن خرجت ونوى السفر المتنوع ، [ ص: 164 ] وفيما إذا حلف لا يتزوج ، ونوى حبشية أو عربية

                التالي السابق


                ( 41 ) قوله : النية إنما تعمل في الملفوظ أي لا في غيره وذلك لأن النية يقصد بها التمييز ، وإنما يتأتى في لفظ محتمل كعام يحتمل التخصيص أو مجمل يحتاج إلى البيان أو مشترك يعين بعض أفراده ، أما إذا لم يكن اللفظ محتملا يبقى مجرد النية لا تأثير لها في أحكام الدنيا ، ولهذا لا يقع الطلاق والعتاق بمجرد النية ، ثم اللفظ الذي يحتمل شيئين أو أشياء إن احتملهما على السواء فنوى أحدهما فإنه يصدق ديانة وقضاء ; لأن الظاهر لا يكذبه وإن احتمل أحدها احتمالا مرجوحا فنوى ذلك المرجوح ينظر إن كان فيه تغليظ على نفسه يصدق أيضا ديانة وقضاء ; لأنه غير متهم في ذلك ، لكنه لا يصدق قضاء ; لأن القضاء مبني على الظاهر وهو مخالف لما نوى وإن نوى ما لا يحتمله لفظه لا يصدق ديانة ولا قضاء ; لأنه يخلو عن اللفظ وقد تقدم أن النية لا حكم لها على الانفراد .

                ( 42 ) قوله : وهي مسألة إن أكلت ونوى طعاما دون طعام يعني إذا ذكر فعلا ولم يذكر معه المفعول ونوى شيئا دون شيء بأن نوى طعاما معينا لا يصدق ديانة ولا [ ص: 163 ] قضاء ; لأن نية التخصيص إنما تصح في العام وهي تعمل في الملفوظ والمذكور والفعل وهو لا عموم له .

                وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يصدق ديانة ، وهو قول الشافعي رحمه الله وهي رواية النوادر وعليها اعتمد الخصاف ; لأنه نوى مفعول فعله وهو وإن لم يكن ملفوظا فهو في حكم الملفوظ ; لأن الفعل يستدعيه ولا يستغني عنه باعتبار كونه محلا فصحت نية التخصيص لكنه خلاف الظاهر فلا يصدق قضاء .

                وجه الظاهر أن المذكور هو الفعل ولا عموم له ، كذا نقل عن سيبويه ، والمعنى فيه أن الفعل وجوده بالمباشرة وإنما يوجد بقدر ما باشره والمفعول ليس بثابت لفظا ، وإنما هو ثابت اقتضاء والمقتضى لا عموم له لكونه ثابتا بطريق الضرورة فإن قيل : الفعل فيما لو قال إذا اغتسلت وإن كان واحدا لكنه يتنوع إلى فرض وواجب ومسنون ومستحب ، فوجب أن يجوز نية التخصيص نظرا إلى أنواعه قلنا هذا التنوع شرعي والألفاظ وضعت بإزاء معاني الحقيقة دون الحكمية لتقدم وضعها .

                والتخصيص إنما يجري في اللفظ باعتبار وضعه الأصلي لا العارضي وإن ذكر مع كل فعل مفعولا بأن قال : إن تزوجت امرأة أو إن أكلت طعاما أو إن اغتسل أحد فإنه يصدق ديانة لا قضاء ; لأن كلا من المفاعيل المذكورة نكرة مذكورة في موضع الشرط وقد علم أن الشرط في معنى النفي فيعم فيجوز فيه التخصيص ويكون من باب ذكر الشيء وإرادة بعضه كقوله تعالى

                { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن } الآية .

                وكانت أربعة جبال لكنه لا يصدق قضاء ; لأن التخصيص خلاف الظاهر .

                ( 43 ) قوله : إلا إذا قال إن خرجت ونوى السفر إلخ يعني أنه يصدق ديانة وإن لم يذكر المفعول مع الفعل .

                وقوله أو نوى السفر المتنوع صوابه : ونوى السفر للتنوع كما في تلخيص الجامع أي لتنوع الخروج وهو يرد نقضا على ما تقدم من الجواب عن فعل الاغتسال مع تنوعه إلى فرض وغيره .

                وبيان النقض أنه فعل ذكر وحده واعتبرت نية التخصيص فيه لتنوعه ولم تعتبر في فعل الاغتسال مع تنوعه ، حتى قال القاضي أبو طاهر الدباس : ينبغي أن يتحد الجواب وإليه مال القاضي أبو حازم وذكر القاضي أبو نصر الصفار [ ص: 164 ] عن القضاة أنهم قالوا هذا فيما إذا قال إن خرجت خروجا . قالوا ونص في بعض النسخ القديمة على هذا . والفرق على الظاهر هو أن الخروج متنوع في نفسه لغة ; لأنه عبارة عن الانفصال من مكانه الذي هو فيه إلى مكان قصده ، وذلك المكان تارة يكون قريبا وتارة يكون بعيدا ، ولهذا يقال سافر فلان من غير ذكر الخروج ، فيجعلون الخروج عين السفر ، فإذا نوى أحد نوعي الخروج فقد نوى محتمل كلامه فيصدق ديانة بخلاف فعل الاغتسال فإنه متنوع شرعا لا لغة ; لأنه في نفسه غير مختلف إذ هو واقع في الأحوال كلها على شيء واحد وهو إسالة الماء على البدن وإنما المغتسل منه هو المتنوع وهو ليس بمذكور لفظا فإذا نوى نوعا من أنواع المغتسل منه لم يكن ذلك المنوي عين الفعل فلا يصير نوعا له فلا تصح نيته فيه ، فوضح الفرق . قيل قيد بنية السفر ; لأنه لو نوى مكانا بعينه في قوله إن خرجت ، لا تصح نيته فيه ; لأنه غير مذكور ، ولا هو نوع من أنواع الخروج .

                ( 44 ) قوله : وفيما إذا حلف لا يتزوج ونوى حبشية أو عربية . روي عن محمد في رجل قال : إن تزوجت ونوى حبشية أو عربية فإنه دين ولو نوى كوفية أو بصرية لا يصدق ديانة ولا قضاء . والفرق أن اليمين ههنا للمنع ومنع الإنسان نفسه عنها باليمين لا يليق عادة ; لأن المدنية جامعة لسائر الأنواع غالبا والإنسان لا يمنع نفسه من سائر الأنواع في العادة . كذا في شرح تلخيص الجامع الكبير للفخر عثمان المارديني




                الخدمات العلمية