الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
152 حديث سادس للعلاء بن عبد الرحمن .

مالك ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، وإسحاق أبي عبد الله أنهما أخبراه أنهما سمعا أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ، وائتوها وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا فإن أحدكم في صلاة ما كان يعمد إلى الصلاة .

التالي السابق


هذا الحديث لم يختلف على مالك فيما علمت في إسناده ولا في متنه ، وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه من وجوه كثيرة أجلها ما حدثناه سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : [ ص: 230 ] حدثنا إبراهيم بن حمزة قال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وائتوها وأنتم تمشون عليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا .

وحدثنا سعيد قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا إسماعيل قال : حدثنا إبراهيم بن حمزة ، عن إبراهيم بن سعيد ، عن أبيه ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .

وأخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا عنبسة ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال : أخبرني سعيد بن المسيب ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وائتوها تمشون وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا .

قال أبو داود : وكذلك قال الزبيدي ، وابن أبي ذئب ، ومعمر ، وإبراهيم بن سعد ، وشعيب بن أبي حمزة ، كلهم عن الزهري بإسناده قالوا : وما فاتكم فأتموا . وقال ابن عيينة وحده : وما فاتكم فاقضوا .

وقال محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة .

وجعفر بن ربيعة ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة : فأتموا .

وكذلك روى ابن قتادة ، وأنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : فأتموا .

واختلف عن أبي ذر ، فروي عنه : فأتموا ، و : فاقضوا .

[ ص: 231 ] قال أبو داود : وحدثنا أبو الوليد الطيالسي قال : حدثنا شعبة ، عن سعد بن إبراهيم قال : سمعت أبا سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ائتوا الصلاة وعليكم السكينة فصلوا ما أدركتم ، واقضوا ما سبقكم ، قال أبو داود : وكذلك قال ابن سيرين وأبو رافع ، عن أبي هريرة : واقضوا .

قال أبو عمر :

أما قوله : إذا ثوب بالصلاة . فإنه أراد بالتثويب ههنا الإقامة ، وقد ذكرنا هذا المعنى مجودا في باب أبي الزناد ، وقد بان في رواية سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة ، عن أبي هريرة لهذا الحديث أن التثويب المذكور في حديث العلاء هو الإقامة .

وأما قوله : فلا تأتوها وأنتم تسعون . فالسعي ههنا في هذا الحديث : المشي بسرعة والاشتداد فيه ، والهرولة . هذا هو السعي المذكور في هذا الحديث ، وهو معروف مشهور في كلام العرب ، ومنه السعي بين الصفا والمروة ، وقد يكون السعي في كلام العرب : العمل ، من ذلك قوله : ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها ) ، و ( إن سعيكم لشتى ) ، ونحو هذا كثير .

ذكر سنيد قال : حدثنا وكيع ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب قال : السعي : العمل .

[ ص: 232 ] واختلف العلماء في السعي إلى الصلاة لمن سمع الإقامة ، فروى مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي . وروي ذلك عن ابن عمر من طرق .

وروي عن عمر أنه كان يهرول إلى الصلاة ، وفي إسناده عنه لين وضعف ، والله أعلم .

أخبرنا أحمد بن عبد الله ، حدثنا الحسن بن إسماعيل ، حدثنا عبد الملك بن بحر ، حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ ، حدثنا سنيد بن داود ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن ابن مسعود قال : لو قرأت فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي وكان يقرأ : " فامضوا إلى ذكر الله " .

قال أبو عمر :

وهي قراءة عمر رحمه الله ، وروي عن ابن مسعود أنه قال : أحق ما سعينا إليه الصلاة . رواه عنه ابنه أبو عبيدة ، ولم يسمع منه .

وروي عن الأسود بن يزيد ، وعبد الرحمن بن يزيد ، وسعيد بن جبير أنهم كانوا يهرولون إلى الصلاة ، فهؤلاء كلهم ذهبوا إلى أنه من خاف الفوت سعى ومن لم يخف مشى على هيئته .

وروى وكيع ، عن المسعودي ، عن القاسم بن عبد الرحمن قال : قال عبد الله بن مسعود : إذا أتيتم الصلاة فائتوها وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا .

[ ص: 233 ] وروى المسعودي أيضا ، عن علي بن الأقمر ، عن أبي الأحوص قال : قال عبد الله : لقد رأيتنا وإنا لنقارب بين الخطى .

وروى أبو الأشهب جعفر بن حيان ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : خرجت مع زيد بن ثابت إلى المسجد فأسرعت في المشي فحبسني .

وروى محمد بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي نضرة ، عن أبي ذر قال : إذا أقيمت الصلاة فامش إليها كما كنت تمشي ، فصل ما أدركت ، واقض ما سبقك .

قال أبو عمر :

قد اختلف السلف في هذا الباب كما ترى وعلى القول بظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب جمهور العلماء وجماعة الفقهاء ، وقد روى ابن القاسم في سماعه قال : سئل مالك ، عن الإسراع في المشي إلى الصلاة إذا أقيمت ؟ قال : لا أرى بذلك بأسا ما لم يسع أو يخب . قال : وسئل عن الرجل يخرج إلى الحرس فيسمع مؤذن المغرب في الحرس فيحرك فرسه ليدرك الصلاة ، قال مالك : لا أرى بذلك بأسا .

وقال إسحاق : إذا خاف فوات التكبيرة الأولى فلا بأس أن يسعى .

قال أبو عمر :

معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما زجر عن السعي من خاف الفوت ، قال : فما أدركتم فصلوا ، فالواجب أن يأتي الصلاة من خاف فوتها ، ومن لم يخف ذلك فالوقار ، والسكينة ، وترك السعي ، وتقريب الخطا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وهو [ ص: 234 ] الحجة صلى الله عليه وسلم . وأما قوله : " وما فاتكم فأتموا " على ما روى مالك وغيره ممن تقدم ذكره في هذا الباب ، ففيه دليل على أن ما أدرك المصلي مع إمامه فهو أول صلاته ، وهذا موضع اختلف فيه العلماء :

فأما مالك فاختلفت الرواية عنه فيما أدرك المصلي من صلاة الإمام ، هل هو أول صلاته أو آخرها ، فروى سحنون عن جماعة من أصحاب مالك ، منهم ابن القاسم عنه : أن ما أدرك فهو أول صلاته ، ولكنه يقضي ما فاته بالحمد وسورة . وهذا هو المشهور من المذهب .

وقال ابن خويز منداد : وهو الذي عليه أصحابنا ، وهو قول الأوزاعي ، والشافعي ، ومحمد بن الحسن ، وأحمد بن حنبل ، والطبري ، وداود بن علي ، وروى أشهب : وهو الذي ذكره ابن عبد الحكم ، عن مالك ، ورواه عيسى ، عن ابن القاسم ، عن مالك ، أن ما أدرك فهو آخر صلاته ، وهو قول أبي حنيفة ، والثوري ، والحسن بن حي .

قال أبو عمر :

هكذا حكى ابن خويز منداد ، عن مالك وأصحابه ، عن محمد بن الحسن ، وذكر الطحاوي ، عن محمد ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة أن الذي يقضيه أول صلاته ، وكذلك يقرأ فيها ، ولم يحك خلافا ، ولا خلاف عن مالك ، وأصحابه أن من أدرك مع الإمام ركعتين أنه يقرأ فيها بأم القرآن وحدها معه في كل ركعة ، ثم يقوم إذا سلم الإمام فيقرأ بأم القرآن ، وسورة فيما يقضي في كل ركعة ، وهذا قول الشافعي أيضا ، فكيف يصح مع هذا المذهب الدعوى على من قال بهذا القول أن ما أدرك فهو أول صلاته ، بل الظاهر الصحيح على ما ذكرنا أن ما أدرك آخر صلاته ، وأما البناء فلا أعلم خلافا فيه بين العلماء أن المصلي يبني فيه على صلاة نفسه ، ولا يجلس إلا حيث يجب له إذا قام لقضاء ما عليه ، وقد صرح الشافعي [ ص: 235 ] بأن قال : ما أدرك فهو أول صلاته ، وقوله في القضاء والقراءة كقول مالك سواء ، وكذلك صرح الأوزاعي بأن ما أدرك من صلاة الإمام فهو أول صلاته ، وأظنهم راعوا الإحرام لأنه لا يكون إلا في أول الصلاة ، والتشهد ، والتسليم لا يكون إلا في آخرها ، فمن ههنا قالوا : إن ما أدرك فهو أول صلاته ، والله أعلم .

وقال الثوري : يصنع فيما يقضي مثل ما يصنع الإمام فيه .

وقال الحسن بن حي : فيما ذكر الطحاوي : أول صلاة الإمام أول صلاتك ، وآخر صلاة الإمام آخر صلاتك ، إذا فاتك بعض صلاته ، وأما المزني ، وإسحاق ، وداود فقالوا : ما أدرك فهو أول صلاته يقرأ فيه مع الإمام بـ ( الحمد لله ) وسورة ، إن أدرك ذلك معه ، وإذا قام للقضاء قرأ ( بالحمد لله ) وحدها فيما يقضي لنفسه ; لأنه آخر صلاته ، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون ، فهؤلاء اطرد على أصلهم قولهم وفعلهم .

وأما السلف رضي الله عنهم فروي عن عمر ، وعلي ، وأبي الدرداء بأسانيد ضعاف : ما أدركت فاجعله آخر صلاتك ، وثبت عن سعيد بن المسيب ، والحسن البصري ، وعمر بن عبد العزيز ، ومكحول ، وعطاء ، والزهري ، والأوزاعي ، وسعيد بن عبد العزيز : ما أدركت فاجعله أول صلاتك . والذي يجيء على أصولهم إن لم يثبت عنهم نص في ذلك ما قاله المزني ، وإسحاق ، وداود .

وروي عن ابن عمر أنه قال : ما أدركت فاجعله آخر صلاتك ، وعن مجاهد ، وابن سيرين مثل ذلك .

وذكر ابن المنذر أن مالكا ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد بهذا يقولون .

[ ص: 236 ] قال أبو عمر :

ظن ذلك من أجل قولهم في القراءة في القضاء ، والله أعلم . واحتج القائلون بأن ما أدرك هو أول صلاته بقوله صلى الله عليه وسلم : وما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ، قالوا : والتمام هو الآخر ، واحتج الآخرون بقوله : " وما فاتكم فاقضوا " قالوا : والذي يقضيه هو الفائت . والحجج متساوية لكلا المذهبين من جهة الأثر ، والنظر ، إلا أن رواية من روى : " فأتموا " أكثر . وأما من جعل ما أدرك مع الإمام أول صلاته ، فليس يطرد فيه ، ويستقيم إلا ما قاله ابن أبي سلمة ، والمزني ، وإسحاق ، وداود ، والله أعلم ، وبه التوفيق والسداد لا شريك له .

وقد زعم بعض المتأخرين من أصحابنا أن من ذهب مذهب ابن أبي سلمة ، والمزني في هذه المسألة أسقط سنة الجهر في صلاة الليل ، وسنة السورة مع أم القرآن ، وهذا ليس بشيء لأن إمامه قد جاء بذلك وحصلت صلاته على سنتها في سرها وجهرها ، وغير ذلك من أحكامها ، وإنما هذا كرجل أحرم ، والإمام راكع ، ثم انحنى ، فلا يقال له : أسقطت سنة الوقوف ، والقراءة ، وكرجل أدرك مع إمامه ركعة فجلس معه في موضع قيامه ، أو انفرد ، فلا يقال له : أسأت أو أسقطت شيئا ، وحسبه إذا أتم صلاته أن يأتي بها على سنة آخرها ما سبقه إمامه في أولها لأنه مأمور باتباع إمامه ، وإنما جعل الإمام ليؤتم به .

وقال أبو بكر الأثرم : قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل - أرأيت قول من قال : يجعل ما أدرك مع الإمام أول صلاته ، ومن قال : يجعله آخر صلاته ، أي شيء الفرق بينهما ؟ قال : من أجل القراءة فيما يقضي ، قلت له : فحديث النبي صلى الله عليه وسلم ، على أي القولين يدل عندك ؟ قال : على أنه يقضي ما فاته ، قال صلى الله عليه وسلم : صلوا ما أدركتم ، واقضوا ما سبقكم ، وقد احتج داود ، وغيره من القائلين بأن من أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد صلى ركعتين بهذا الحديث : قوله صلى الله عليه وسلم : " ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا " ، أو : " فاقضوا " قالوا : فالذي فاته ركعتان لا أربع ، فإنما عليه أن يقضي ما فاته ويتم صلاته .

[ ص: 237 ] قال أبو عمر :

ولعمري إن هذا لوجه لو لم يكن هناك ما يعارضه وينقضه ، لكن لما قال صلى الله عليه وسلم : " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " كان في هذا القول دليل كالنص على أن من لم يدرك ركعة من الصلاة فلم يدرك الصلاة ، ومعلوم أن من لم يدرك الجمعة يصلي أربعا ، على أن داود قد جعل مثل هذا الدليل أصلا جاريا في الأحكام ، وترك الاستدلال به ههنا لما ذكرنا ، والله المستعان .

وقد ذكرنا هذه المسألة في باب ابن شهاب ، عن أبي سلمة من هذا الكتاب ، والحمد لله .




الخدمات العلمية