الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
، ولو أن قاضيا أكره رجلا بتهديد ضرب ، أو حبس ، أو قيد حتى يقر على نفسه بحد ، أو قصاص كان الإقرار باطلا ; لأن الإقرار متمثل بين الصدق ، والكذب ، وإنما يكون حجة إذا ترجح جانب الصدق على جانب الكذب ، والتهديد بالضرب ، والحبس يمنع رجحان جانب الصدق على ما قال عمر رضي الله عنه : ليس الرجل على نفسه بأمين إذا ضربت أو أوثقت ، ولم ينقل عن أحد من المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله صحة الإقرار مع التهديد بالضرب ، والحبس في حق السارق ، وغيره إلا شيء روي عن الحسن بن زياد رضي الله عنه أن بعض الأمراء بعث إليه ، وسأله عن ضرب السارق ليقر ، فقال ما لم يقطع اللحم أو يبين العظم ، ثم ندم على مقالته ، وجاء بنفسه إلى مجلس الأمير ليمنعه من ذلك ، فوجده قد ضربه حتى اعترف ، وجاء بالمال ، فلما رأى المال موضوعا بين يدي الأمير قال : ما رأيت ظلما أشبه بالحق من هذا ، فإن خلي سبيله بعد ما أقر مكرها ، ثم أخذ بعد ذلك ، فجيء به ، فأقر بما كان تهدد عليه بغير إكراه مستقل أخذ بذلك كله ; لأن إقراره الأول كان باطلا ، ولما خلي سبيله ، فقد انتهى حكم ذلك الأخذ ، والتهديد ، فصار كأن لم يوجد أصلا حتى أخذ الآن فأقر بغير إكراه ، وإن كان لم يخل سبيله ، ولكنه قال : له ، وهو في يده بعدما أقر إني لا أؤاخذك بإقرارك الذي أقررت به ، ولا أضربك ، ولا أحبسك ، ولا أعرض [ ص: 71 ] لك ، فإن شئت فأقر ، وإن شئت ، فلا تقر ، وهو في يد القاضي على حاله لم يجز هذا الإقرار ; لأن كينونته في يده حبس منه له ، وإنما كان هدده بالحبس ، فما دام حابسا له كان أثر ذلك الإكراه باقيا ، وقوله لا أحبسك نوع غرور ، وخداع منه ، فلا ينعدم به أثر ذلك الإكراه ، ولأن الظاهر أنه إنما أقر لأجل إقراره المتقدم ، فإنه علم أنه لا ينفعه الإنكار ، وأنه إذا تناقض كلامه يزداد التشديد عليه بخلاف الأول ، فهناك قد خلي سبيله ، وصار بحيث يتمكن من الذهاب إن شاء ، فينقطع به أثر ذلك الإكراه .

وإن خلي سبيله ، ولم يتوار عن بصر القاضي حتى بعث من أخذه ، ورده إليه ، فأقر بالذي أقر به أول مرة من غير إكراه جديد ، فإن هذا ليس بشيء ; لأنه ما لم يتوار عن بصره ، فهو متمكن من أخذه ، وحبسه ، فيجعل ذلك بمنزلة ما لو كان في يده على حاله ، وإن كان حين رده أول مرة لم يحبسه ، ولكنه هدده ، فلما أقر قال : إني لست أصنع بك شيئا ، فإن شئت فأقر ، وإن شئت فدع ، فأقر لم يأخذه بشيء من ذلك ; لأنه ما دام في يده ، فكأنه محبوس في سجنه ، فكان أثر التهديد الأول قائما أرأيت لو خلى سبيله ، ثم بعث معه من يحفظه ، ثم رده إليه بعد ذلك ، فأقر أكان يؤخذ بشيء من ذلك ؟ أو لا يؤخذ به ؟ ; لأن يد من يحفظه له كيده في ذلك . .

التالي السابق


الخدمات العلمية